البحث
المرحلة الأولى من الاختبار
وكان من نتيجة هذه الموجة من التعذيب، أن مات من مات تحت التعذيب، وصبر من صبر. . وفتن من فتن. . وهكذا تخلصت الدعوة منذ البدء ممن لم يكن أهلاً لحملها. . وكانت المرحلة الأولى من الاختبار.
وثبت الآخرون على الرغم من استمرار عمليات التعذيب. ذلك أن الصبر إنما يكون عند الصدمة الأولى. . ومن تحمل البلاء في المرة الأولى فهو أقدر على تحمله في المرة الثانية.
ففي حادثة عبدالله بن مسعود حين جهر بالقرآن لأول مرة في الحرم، وقام إليه المشركون فضربوه حتى أثروا في وجهه. قال له أصحابه: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غداً. . (1).
وهي كلمة من ابن مسعود تستحق التدبر والفهم. فكثيراً ما يكون الخوف والوهم بلاء أكبر من البلاء المتوقع نفسه، ولما حل هذا الأمر بابن مسعود وجد أن الأمر أقل مما كان يقدر. .
ويوضح سعد بن أبي وقاص هذا المعنى أيضاً بقوله: (كنا قوماً يصيبنا ظلف (2) العيش وشدته بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصابنا البلاء اعترفنا لذلك ومرنا (3) عليه وصبرنا له. .) (4).
ورأينا في مثال سابق كيف صبرت جارية بني المؤمل لتعذيب عمر بن الخطاب حتى كان يمل من ذلك.
ولا شك بأن لقاء الصحابة بالرسول صلى الله عليه وسلم - الذي كان يخفف من آلامهم ويمسح جراحهم - كان له الأثر الكبير في استمرار الصبر ومتابعة الطريق.
ولقد كانت الآيات الكريمة تبث فيهم روح الثبات، ونعتقد أن سورة البروج كان نزولها في هذه الفترة العصيبة لتشد من عزائم المؤمنين، وتبين لهم أن هذا الطريق يحتاج إلى الجهد الكبير وأن الجزاء مقابل ذلك عند الله كبير. . ولنستمع إلى جانب من هذه السورة الكريمة:
{وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍۢ وَمَشْهُودٍۢ قُتِلَ أَصْحَٰبُ ٱلْأُخْدُودِ ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّآ أَن يُؤْمِنُوا بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ ٱلَّذِى لَهُۥ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ شَهِيدٌ إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُوا ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ ۚ ذَٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْكَبِيرُ. .} (1).
"إن القيمة الكبرى في ميزان الله هي قيمة العقيدة، وإن السلعة الرائجة في سوق الله هي سلعة الإيمان، وإن النصر في أرفع صوره هو انتصار الروح على المادة، وانتصار العقيدة على الألم، وانتصار الإيمان على الفتنة. . وفي هذا الحادث انتصرت أرواح المؤمنين على الخوف والألم، وانتصرت على جواذب الأرض والحياة وانتصرت على الفتنة انتصاراً يشرف الجنس البشري كله في جميع الأعصار. . وهذا هو الانتصار".
"إن الناس جميعاً يموتون، وتختلف الأسباب، ولكن الناس جميعاً لا ينتصرون هذا الانتصار، ولا يرتفعون هذا الارتفاع، ولا يتحررون هذا التحرر، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق. . إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده لتشارك الناس في الموت، وتنفرد دون الناس في المجد. المجد في الملأ الأعلى، وفي دنيا الناس.. " (2).لا شك بأن تلك المعاني كانت بعض ما يجول بخاطرهم وهم يتلقون صنوف البلاء على أيدي المشركين.
المراجع
- سيرة ابن هشام 1/ 315.
- أي بؤسه وشدته وخشونته.
- أي: اعتدنا وداومنا.
- حياة الصحابة للكاندهلوي 1/ 312 نقلاً عن الحلية لأبي نعيم 1/ 93.
- سورة البروج: الآيات 1- 11.
- معالم في الطريق. لسيد قطب. بحث: هذا هو الطريق.