البحث
أمن المدينة
أمن المدينة
ربي المسلمون في مكة - كما رأينا - على تصور واضح عن عالمية هذا الدين، كما كان هذا التصور واضحاً كل الوضوح في أذهان الأنصار الذين بايعوا بيعة العقبة الثانية، وإن المناقشات التي دارت في هذه البيعة لتدل دلالة واضحة على ذلك (1).
ومن ذلك ما قاله العباس بن عبادة الأنصاري: "يا معشر الخزرج، هل تدرون علام =
وإذن فلا بد للدعوة أن تأخذ طريقها إلى أسماع الناس، ولكن العقبة الكؤود التي كانت في مكة ما زالت قائمة على مسرح الأحداث. تلك هي قريش.
إن المركز الديني والمركز التجاري لمكة باتا مهددين بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهما أمران تقوم عليهما حياة قريش المادية والمعنوية. لهذا لم يكن مستبعداً أن تهاجم قريش المدينة، أليست هي البلد التي آوت الفارين والخارجين على سلطتها؟ أليس هذا تحدياً لقريش يجرح كبرياءها ويخدش مكانتها؟
لقد أرسلت من قبل في طلب المهاجرين إلى الحبشة من النجاشي، ذلك أنها لا سلطان لها على النجاشي، أما هنا مع يثرب فالأمر مختلف، إن الاحتكام إلى السلاح أمر تلجأ إليه القبائل إذا أصيبت في كرامتها، أو تضررت في أموالها.
لهذا كله لم يكن مستبعداً أن تُهاجم المدينة في كل وقت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون يحسبون لهذا الأمر حسابه، فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح، ولا يصبحون إلا فيه.
= تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم فتلاً أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال، وقتل الاشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة. ." [سيرة ابن هشام 1/ 446].
وعلى الرغم من أن نص البيعة هو (أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناؤكم) - كما عند ابن هشام 1/ 422 - ولم يتضمن ما ذهب إليه العباس بن عبادة، إلا أن التصور الواضح لعالمية هذا الدين كان يقتضي هذا الفهم.
قال ابن كثير في تفسيره: قال الربيع بن أنس، عن أبي العالية: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين، يدعون إلى الله وحده، وإلى عبادته وحده لا شريك له سراً وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بعد الهجرة إلى المدينة، فقدموها. . فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين، يمسون في السلاح، ويصبحون في السلاح، فصبروا على ذلك ما شاء الله، ثم إن رجلاً من الصحبة قال: يا رسول الله، أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأت علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن تصبروا إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيه حديدة، وأنزل الله هذه الآية:
{وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ . .} (1).
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار، رمتم العرب عن قوس واحدة، فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله؟ فنزلت:
{وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ} (2).
وعن عائشة قالت: (سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة، فقال: "ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة" قالت: فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح، فقال: "من هذا؟" قال: سعد بن أبي وقاص فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما جاء بك؟" قال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نام) (3).
تلك صورة تبين ما كان عليه المسلمون بعد الهجرة. . ومن رحمة الله بهم أنه أذن لهم في القتال بنزول قوله تعالى:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (1).
كان ذلك بعد بضعة أشهر من الوصول إلى المدينة.
فماذا يعني هذا الإذن؟
كل المعطيات السابقة تؤكد أن العدو الظاهر على مسرح الأحداث يومئذ، هو قريش. .
وأمر آخر استقر في ذهنه صلى الله عليه وسلم نتيجة للواقع العملي المر الذي عاشه في مكة، أياما وأياماً. . أن سلطان قريش على العرب قاطبة كبير، وأن هيمنتها واسعة، وقد تأكد ذلك له من قصة عرض نفسه على القبائل. . إذ لم تكن قبيلة ما تستطيع مساعدته خوفاً من قريش. . أو حتى لا تثير بينها وبينها عداوة. .
إن هذا وغيره ولد قناعة كاملة بأن قريشاً هي العقبة الوحيدة في وجه الدعوة، وما لم يحد سلطانها، ويقضى على شوكتها، فلن تستطيع الدعوة، أن تسير قدماً، فإن العرب تنظر إليها وترقب سلوكها. .
قال ابن إسحاق: وإنما كانت العرب تربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش. . وذلك أن قريشاً كانوا إمام الناس وهاديهم وأهل البيت الحرام، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وقادة العرب. . (2).
لهذا كله ينبغي أن توجه الجهود كلها إلى إنهاء المشكلة مع قريش أولاً ثم يكون الطريق بعد ذلك ميسراً بإذن الله تعالى. . .
وبدأت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم تغادر المدينة متتابعة. .
- في شهر رمضان من السنة الأولى عقد صلى الله عليه وسلم لواء لعمه حمزة بن عبدالمطلب وبعثه في ثلاثين رجلاً، من المهاجرين خاصة، يعترض عيراً لقريش جاءت من الشام فيها أبو جهل. .
- وفي شهر شوال من السنة الأولى بعث صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث إلى بطن رابغ في ستين رجلاً، من المهاجرين خاصة. .
- في شهر ذي القعدة من السنة الأولى بعث سعد بن أبي وقاص إلى الخرار من أرض الحجاز ومعه عشرين رجلاً يعترضون عيراً لقريش.
- في شهر صفر من السنة الثانية خرج صلى الله عليه وسلم في أول غزوة غزاها يريد عيراً لقريش في ستين راكباً من المهاجرين فوصل إلى ودان أو الأبواء. . وعقد مصالحة مع بني ضمرة.
- وفي شهر ربيع الأول من السنة الثانية خرج صلى الله عليه وسلم في مائتي رجل من المهاجرين يريد عيراً لقريش فيها أمية بن خلف. .
- ثم خرج صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى من السنة الثانية في مائة وخمسين من المهاجرين يعترضون عيراً لقريش ذاهبة إلى الشام. . فبلغ العشيرة من ناحية ينبع. . فأقام بقية جمادى الأولى وأياماً من جمادى الآخرة. . ووادع فيها بني مدلج وحلفاءهم. .
- ثم خرج في جمادى الثانية في طلب كرز بن جابر الفهري الذي أغار على سرح المدينة. . وتسمى بدراً الأولى.
- وفي شهر رجب من السنة الثانية كانت سرية عبدالله بن جحش إلى نخلة. . وفيها قتل المسلمون عمرو بن الحضرمي وأسروا عثمان بن عبدالله بن المغيرة. .
كل هذا حدث في أقل من عام واحد، وهو أمر يلفت النظر إلى نواح عدة. .
1- في جميع هذه الغزوات والسرايا كان المجاهدون من المهاجرين. . ولعل هذا كان التزاماً بنصوص بيعة العقبة الثانية. . (1).
2- كل هذه الغزوات والسرايا كانت غايتها تجارة قريش، وهذا يعني التضييق عليها في أمر اقتصادها وإشعارها بأن الأمن لم يعد متيسراًـ وأن هناك قوة ناشئة ينبغي أن يحسب لها حسابها.
3- قلنا: إن المدينة كانت في خطر. . وهذه البعوث المتتابعة كان من مهماتها استطلاع المنطقة وما يجري فيها. . وما يؤدي إلى دراسة وافية للوضع السياسي والعسكري في تلك البقعة من الأرض.
4- من وسائل الأمن عقد الاتفاقات مع الجوار. . وفي ذلك تخفيف من عدد الأعداء، وضمان لحرية الحركة. . وهكذا تم الاتفاق مع بني ضمرة، ثم مع بني مدلج وحلفائهم. .
5- وللجانب الإعلامي دور كبير. . فمكوثه صلى الله عليه وسلم في غزوة العشيرة وإقامته بها يدل على مراعاة هذا القصد.
وبهذه الغزوات والسرايا المتتابعة تمكن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من إقناع قريش بأن مهاجمة المدينة ليس أمراً سهلاً في متناول أيديهم، وأن الأيدي التي لم ترتفع في مكة للدفاع عن نفسها باتت مسلحة ملؤها الإيمان في جهاد أعداء الله، وكان على قريش أن تفكر طويلاً قبل أن تخطو مثل هذه الخطوة.
وبهذا ضمن صلى الله عليه وسلم الأمن الخارجي للمدينة، كما ضمن الأمن الداخلي بالوثيقة التي وضعها.
وهكذا فقد كان جماع السلطة في يده صلى الله عليه وسلم.
- فهو المرجع في الأمور كلها. . وإذا خرج إلى غزوة ما، استعمل على المدينة واحداً من أصحابه، فقد استعمل في غزوة بواط السائب بن عثمان بن مظعون، وفي غزوة العشيرة أبا سلمة بن عبدالأسد.
- وهو الذي يبعث بالسرايا ويعقد لها الألوية، كما كان يقود الغزوات بنفسه صلى الله عليه وسلم.
- كما كان يعقد الصلح والمعاهدات.
ومن نافلة القول أن نذكر بأنه لم يلزم الأنصار بالخروج في غزوة أو سرية في هذه المدة من الزمن التزاماً منه صلى الله عليه وسلم بنصوص بيعة العقبة الثانية، فمآل السلطة إليه لا يعني الإخلال بالعهود والمواثيق، فهو خير من وفى صلى الله عليه وسلم.
المراجع
- في تفسير سورة النور: الآية 55.
- عن حياة الصحابة للكاندهلوي 1/ 303 وقال: أخرجه ابن المنذر، والطبراني والحاكم وابن مردوية، والبيهقي في الدلائل، وسعيد بن منصور، كما ذكره في كنزل العمال.
- رواه مسلم برقم 2410.
- من المعلوم أن البيعة كانت على أن يمنعوه إذا داهمه العدو، ولم تكن على أن يخرج بهم إلى عدوه وعدوهم.
- سورة الحج: الآية 39.
- سيرة ابن هشام 2/ 560.