البحث
القوة الانفاقية
القوة الإنفاقية:
يعرف الناس اليوم ما يسمى "بالقوة الشرائية" في ميدان الاقتصاد، فالدرهم في يوم قد يشتري به أقل أو أكثر مما اشترى به في يوم سابق، فالدرهم هو الدرهم، ولكن عامل الزمن والظروف المتغيرة هي التي تحدد قيمته الشرائية.
وقد بين الله في هذه المرحلة أن ثواب الإنفاق في سبيل الله يختلف مقداره بين وقت وآخر، فعامل الزمن له أثر فعال في هذا الموضوع.
ورد هذا في قوله تعالى:
{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ لَا يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَٰتَلَ ۚ أُولَٰٓئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُوا مِنۢ بَعْدُ وَقَٰتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (1).
فالإنفاق قبل الفتح أعظم درجة عند الله من الإنفاق بعده. .
وسواء أكان المقصود بالفتح فتح مكة، أو كان المراد به صلح الحديبية، فإن المبدأ ثابت.
"إن الذي ينفق ويقاتل والعقيدة مطاردة، والأنصار قلة، وليس في الأفق ظل منفعة ولا سلطان ولا رخاء. . عير الذي ينفق ويقاتل والعقيدة آمنة والأنصار كثرة، والنصر والغلب والفوز قريبة المنال. . ذلك متعلق مباشرة بالله، متجرد تجرداً كاملاً لا شبهة فيه، عميق الثقة والطمأنينة بالله وحده. . لا يجد على الخير عوناً إلا ما يستمده مباشرة من عقيدته. وهذا له على الخير أنصار حتى حين تصح نيته ويتجرد تجرد الأولين" (2).
روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
كَانَ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَلَامٌ فَقَالَ خَالِدٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ تَسْتَطِيلُونَ عَلَيْنَا بِأَيَّامٍ سَبَقْتُمُونَا بِهَا فَبَلَغَنَا أَنَّ ذَلِكَ ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ "دَعُوا لِي أَصْحَابِي" فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقْتُمْ مِثْلَ أُحُدٍ أَوْ مِثْلَ الْجِبَالِ ذَهَبًا مَا بَلَغْتُمْ أَعْمَالَهُمْ".
وفي الصحيح:
"لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ" (3).
وهكذا كان لا بد من لفت النظر إلى هذا الأمر حتى يعرف لصاحب الفضل فضله وحتى يتدارك المتأخر نفسه "بالكم" إذ فاتته درجة "النوع".
ويسير في الاتجاه نفسه ما حدث في غزوة تبوك. . حيث حث الرسول صلى الله عليه وسلم على الصدقة. . وتبرع المسلمون . . وكان من جملة من تبرع أبو عقيل، أحد الأنصار، فقد أتى بصاع من تمر وقال: بت ليلتي أجر بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر، فأمسكت أحدهما وأتيتك بالآخر. . ولمزه المنافقون (4).
وفي هذا المعنى جاء قوله صلى الله عليه وسلم:
"سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفٍ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ قَالَ رَجُلٌ لَهُ دِرْهَمَانِ فَأَخَذَ أَحَدَهُمَا فَتَصَدَّقَ بِهِ وَرَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ فَأَخَذَ مِنْ عُرْضِ مَالِهِ مِائَةَ أَلْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا" (5).
وهكذا يبين صلى الله عليه وسلم أن الأجر لا ينظر إليه من زاوية واحدة وهي كثرة أو قلة المال المبذول، وإنما ينظر إليه أيضاً من زاوية حال المعطي والظروف المحيطة به، وقد رأينا في فصل ماضٍ كيف ربى الإسلام في نفوس أتباعه روح العطاء.
وبهذا قد تكون القوة الإنفاقية لدرهم تساوي آلاف الدراهم. وهذا ما يدفع كل فرد للمشاركة بما يستطيع، وأن لا يستقل ما يشارك به فالميزان عند الله غير ميزان الناس. . فالذرة لها حساب. .
تحذير وتخويف:
ربي المسلمون - كما رأينا - على الصبر على تحمل أنواع المشاق على اختلافها، ومن جملتها الصبر على الفقر. .
وتمر الأيام. . وتأتي الأيام الأخيرة من حياته صلى الله عليه وسلم، وقد توطدت أركان الدولة، وأخذت الدعوة طريقها إلى القلوب على نطاق واسع. . وجاء الله بالغنى. . وتواردت الأموال على المدينة. .
إن الصبر على الغنى قد يكون أصعب في حقيقته من الصبر على الفقر، فلئن كان الفقر يدفع بالإنسان إلى العمل ليدفع عن نفسه الحاجة إلى الناس، وحتى لا تكون يده هي السفلى. . فإن الغنى يدفع إلى الانغماس في الدنيا أكثر وأكثر، لأن من طبيعة الفطرة - كما رأينا في فصل سابق - أنه لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً.
وأمر آخر، وهو أن الغني يجر إلى الطغيان إلا من عصم الله تعالى، وهذه حقيقة تقرها الآيات التالية:
{كَلَّآ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَيَطْغَىٰٓ أَن رَّءَاهُ ٱسْتَغْنَىٰٓ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجْعَىٰٓ} (6).
من أجل هذا، كان لا بد من توجيه المسلمين وتحذيرهم من أن يسيطر عليهم الاهتمام بالدنيا. . وفي مقابل ذلك قد ينسون مهمتهم الأولى التي هي عبادة الله تعالى بمفهومها العام، وكذلك الدعوة إلى دين الله تعالى.
وكان هذا التوجيه في اللقاء التالي:
عن عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا. . فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فَسَمِعَتْ الْأَنْصَارُ بِقُدُومِهِ فَوَافَقتْ صَلَاةَ الصُّبْحِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُمْ، وَقَالَ:"أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَأَنَّهُ جَاءَ بِشَيْءٍ".
قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ:
"فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ" (7).
وهكذا يبين لهم صلى الله عليه وسلم تخوفه من أن تسيطر عليهم اهتمامات الدنيا وزخارفها وتجرهم بعيداً من حيث لا يشعرون عما خلقوا له. وفي هذا من البلاء ما فيه.
المراجع
- سورة الحديد" الآية 10.
- في ظلال القرآن عند تفسير الآية المذكورة.
- أوردهما ابن كثير عند تفسير الآية المذكورة.
- انظر تفسير ابن كثير في تفسير الآية 79 من سورة التوبة.
- رواه النسائي: في كتاب الزكاة، باب جهد المقل.
- سورة العلق: الآيات 6- 8.
- رواه البخاري برقم 6425 ومسلم برقم 2961.