البحث
ترحيب الأنصار بالمهاجرين
ترحيب الأنصار بالمهاجرين:
إن ظروف الهجرة القاسية، جعلت أكثرية المهاجرين يخرجون طالبين النجاة بأنفسهم، ولم يتح لهم أن يحملوا معهم أموالهم، فقد كانت العيون من قريش تراقب تحركاتهم حينما أحست بعزمهم على مغادرة مكة، ولذلك حبس من حبس منهم فيها. وإزاء هذه الحال فقد وصلوا إلى المدينة وليس بأيديهم شيء.
وقد قام الأنصار باستضافة إخوانهم المهاجرين بكرم كبير لا نجد له نظيراً فيما سجله التاريخ إلا أن يكون صادراً عن طبيعة هذا الدين.
وقد تجلى هذا الكرم بعدد من المظاهر:
1- تأمين السكن: فقد هرع الأنصار لتقديم بيوتهم ومشاركة إخوانهم في سكنهم، وقد كان كل أنصاري حريصاً على أن يناله ذلك الخير، فكانت المشاحة في ذلك والحرص عليه، حتى لم ينزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة.
روى البخاري عن خارجة بن زيد بن ثابت: (أن أم العلا (1) - امرأة من نسائهم [الأنصار] بايعت النبي صلى الله عليه وسلم (2) - أخبرته أن عثمان بن مظعون طار لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين. . ) (2).
2- لم تقتصر المشاركة على السكن فقد تناولت أيضاً الطعام والمال.
قال أنس بن مالك: (لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ مِنْ مَكَّةَ وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ يَعْنِي شَيْئًا وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ أَهْلَ الْأَرْضِ وَالْعَقَارِ(3) فَقَاسَمَهُمْ الْأَنْصَارُ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُمْ ثِمَارَ أَمْوَالِهِمْ كُلَّ عَامٍ وَيَكْفُوهُمْ الْعَمَلَ وَالْمَئُونَةَ) (4).
وفي تفسير ابن كثير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم" فقالوا: أموالنا بيننا قطائع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو غير ذلك" قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم، وتقاسمونهم الثمر" فقالوا: نعم يا رسول الله (5).
3- يضاف إلى ذلك ما قدمه الأنصار من منائح، قدموها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجعلوها تحت تصرفه يضعها حيث يشاء.
ففي حديث أنس: (كان الرجل يجعل للنبي النخلات. . وأن أُمُّ أَنَسٍ أَعْطَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِذَاقًا (1) لَها فَأَعْطَاها النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ أَيْمَنَ مَوْلَاتَهُ أُمَّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) (2).
4- وهناك أنواع أخرى من العطاء والكرم كانت تقدم بشكل هدايا وغيرها. . قال مخرمة بن سليمان: وكانت جفنة سعد تدور على رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ يوم نزل المدينة في الهجرة إلى يوم توفي، وغير سعد بن عبادة يفعلون ذلك، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتواسون. . (3).
تلك نماذج مما قدمه الأنصار، ليس ذلك ليوم أو شهر. . وإنما لمدة طويلة من الزمن، ولقد كانت الأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم إشعاراً بأن الرجل يعاون أخاه بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
ولقد كان هذا العطاء صادراً عن نفوس طيبة، سجل لها القرآن الكريم هذا الموقف وأثنى عليها بما تستحقه، فقال تعالى:
{وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلْإِيمَٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ} (4).
ومما يبين لنا مقدار كرم الضيافة وحسن المواساة، ما أخرجه أحمد عن أنس قال: (قال المهاجرون: يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلاً في كثير، لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال: "لا، ما أثنيتم عليهم، ودعوتهم الله لهم") (1).
ولقد أكرم الله الأنصار إذ سماهم في القرآن الكريم بهذا الاسم ثم جعلهم في عداد السابقين، وذلك في قوله تعالى:
{وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلْأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَٰجِرِينَ وَٱلْأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَٰنٍۢ رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ. .} (2).
وقبل أن نختم هذه الفقرة، هناك سؤال يطرح نفسه: لم لم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم الأرض والمزارع بين المهاجرين والأنصار، كما طلب ذلك الأنصار؟.
ومن خلال دراسة السيرة نستطيع أن نرجع هذا الأمر لسببين:
1- إن هذه المساعدة في نظره صلى الله عليه وسلم مساعدة مؤقتة، وإن طالت مدتها نسبياً، فهي إنما كانت تحت عامل الضرورة، والضرورات تقدر بقدرها ولذلك نجده صلى الله عليه وسلم في أول فرصة تسنح يحاول إرجاع تلك المنائح لأصحابها. ولذا أحب أن تبقى الأرض والمزارع بيد أصحابها وأن لا تخرج عنها وأن تكون المقاسمة قاصرة على الثمرة.
2- وهناك قضية أخرى، وهي أنه لا يريد شغل المهاجرين بالأرض والزرع، لأن هناك مهمات جهادية تنتظرهم. ولقد رأينا كيف تتابعت السرايا والغزوات في هذه المدة الوجيزة من الزمن، وكيف كانت قاصرة على المهاجرين الذين يختارهم الرسول صلى الله عليه وسلم لكل مهمة من تلك المهمات.
وبهذا تظهر الحكمة العظيمة في تصرفات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ومدى النظرة المستقبلية التي يقدر لها ما يناسبها، وذلك هو التخطيط الصحيح.
المراجع
- الحديث متفق عليه، وهو عند البخاري برقم 2350 وعند مسلم برقم 2492.
- هي أم خارجة راوي الحديث.
- رواه البخاري برقم 3929.
- المقصود بها: النخيل.
- رواه البخاري برقم 2630 ومسلم برقم 1771.
- في تفسير الآية التاسعة من سورة الحشر.
- جمع عذق: وهي النخلة.
- رواه البخاري برقم 4120 ومسلم برقم 1771.
- طبقات ابن سعد 1/ 409.
- سورة الحشر: الآية 9.
- المسند 3/ 200.
- سورة التوبة: الآية 100.