البحث
التربية الجهادية
الفصل الخامس
(التربية (المرحلة الثانية
رأينا في القسم الأول من هذا الكتاب كيف سارت العملية التربوية في مسارات عدة في آن واحد، وقد ظلت هذه المسارات مستمرة وفي نماء متصل.
ونحن في صدد الحديث عن هذه المرحلة لن نتحدث عن نظريات، وإنما سيكون حديثنا من خلال الوقائع، نحاول تسجيل الخطوط العريضة التي سجلتها الأحداث فيها. وسنتناول البحث من ثلاثة جوانب:
- التربية الجهادية.
- التربية الأخلاقية.
- التربية الاقتصادية.
1 التربية الجهادية
تعد هذه الفترة فترة غنية بالوقائع الجهادية، ويكفي لبيان كثافة الحركة الجهادية فيها أن نقول: إن عدد الغزوات التي قادها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه فيها هو سبع عشرة غزوة، وعدد السرايا والبعوث هو أربع وعشرون سرية، كل هذا خلال مدة لا تزيد عن أربع سنوات وشهر واحد.
وقد كانت الآيات تنزل لتوجه وتسدد الخطوات الجهادية في مسارها الصحيح وقد حملت معها كل ما ينبغي أن يتحلى به المجاهدون من سلوكيات.
وسأحاول في عرض هذا الموضوع الاختصار قدر الإمكان والإشارة إلى النقاط المهمة حتى لا يخرج البحث عن حدوده المقدرة له. . وسيكون هذا العرض متمشياً مع التتابع التاريخي للوقائع.
ومما يلاحظ أن المعارك التي جرت في هذه الفترة كانت بمبادرات خارجية فوجئ المسلمون بها، كان ذلك واضحاً في بدر، وفي أحد والأحزاب فقد جاء أعداء الله للقضاء على الإسلام في عقر داره، فهزمهم الله تعالى.
إخلاص وتجانس:
وقبل أن نباشر حديثنا عن التربية المستقاة من التوجيهات القرآنية الكريمة التي نزلت تعقيباً على الغزوات، لا بد من كلمة موجزة عن الجهاد:
عرف العرب القتال دفاعاً عن القبيلة، أو انتصاراً لها، بدافع العصبية، بعيداً عن موازين الحق والعدل والقيم الفاضلة.
وكان الاحتكام إلى السلاح أمراً يحدث لأتفه الأسباب. .
وجاء الإسلام . . وجاء بمشروعية القتال، ولكنه قتال في سبيل الله تعالى، غايته أن تكون كلمة الله هي العليا.
وبهذا يختلف مفهوم القتال في الإسلام عنه في الجاهلية اختلافاً كلياً. في الأسباب وفي الغايات. .
أصبح القتال عملاً عبادياً، يتقرب به إلى الله تعالى، ولهذا فهو يحتاج إلى النية الصالحة ككل العبادات من الصلاة وغيرها. .
وأن تكون هذه النية خالصة من كل الشوائب. .
إن غاية القتال في سبيل الله، هي أن تكون كلمة الله هي العليا، وبمعنى آخر: نشر الإسلام وتبليغ الدعوة إلى كل الناس حتى يتاح لهم معرفة الحق والدينونة به أو الدينونة له. . وعندها تكون كلمة الله هي العليا لأنها تحكم حياة الناس.
ولهذا المعنى السامي كان الموت في سبيل الله شهادة، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
ولما كان هذا المفهوم عن القتال مفهوماً جديداً يطرحه الإسلام، جاء بعضهم يسأل: كيف يكون الجهاد في سبيل الله؟
قال أبو مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ أعرابي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" (1).
وفي رواية: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" (2)
وهكذا يستوعب هذان النصان كل الأغراض التي كان يقاتل الناس من أجلها، وهي الرغبة في الغنيمة، والرغبة في أن يذكر الرجل بشجاعته وبطولته، وقد تستثيره الحمية لقومه وعصبته. . فأي ذلك في سبيل الله؟
لا شيء منها في سبيل الله، ذلك أن الباعث على القتال قد تغير. فهناك نوع واحد في سبيل الله. . أن تكون المشاركة فيه لتكون كلمة الله هي العليا.
ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يذكرهم الله تعالى قبل بدء المعركة، وأن تكون قلوبهم متجهة إليه، خالصة النية، لا تشوبها شائبة. وبهذا أضحت الحياة تبذل في سبيل أمر غالٍ عزيز المنال، هو رضوان الله تعالى، وليس في سبيل عرض من الدنيا، أو كلمة ثناء يتداولها الناس. . أو أمر عصبية قد أبطلها الإسلام.
وكما يطلب الإسلام أن تكون النية في القتال خالصة لوجه الله تعالى. . فإنه كذلك يطلب أن يكون المقاتلون تحت راية الإسلام خالصة لله، من المسلمين، لا يشاركهم في ذلك غيرهم. فكما أن خلوص النية في الفرد أمر ضروري، فكذلك خلوص الجيش في أفراده بأن يكونوا من المسلمين وحدهم أمر ضروري. وهذه هي طريقة الإسلام في تناسق أنظمته على كل المستويات.
فقد جاء في صحيح مسلم: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ بَدْرٍ فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَوْهُ فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِئْتُ لِأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ
قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ لَا قَالَ فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ" (3).
وفي مسند الإمام أحمد خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ (4) قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُرِيدُ غَزْوًا أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ قَوْمِي وَلَمْ نُسْلِمْ فَقُلْنَا إِنَّا نَسْتَحْيِي أَنْ يَشْهَدَ قَوْمُنَا مَشْهَدًا لَا نَشْهَدُهُ مَعَهُمْ قَالَ: "أَوَ أَسْلَمْتُمَا؟" قُلْنَا لَا قَالَ: "فَإِنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ" (5).
وهكذا تأتي النصوص صريحة بعدم قبوله صلى الله عليه وسلم في جيش المسلمين لأي فرد غير مسلم، ذلك أن اختلاف الأهداف والغايات في الجماعة يفسد اجتماعها ويبطل عملها، وكما ذكرنا فالجهاد في الإسلام يختلف عن كل قتال آخر. وهكذا دخل المسلمون كل معاركهم متوكلين على الله دون اعتماد على مساعدة أحد من غير المسلمين.
المراجع
- رواه البخاري برقم 2810 ومسلم برقم 1904.
- رواه البخاري برقم 123 ومسلم برقم 150 من كتاب الإمارة.
- رواه مسلم برقم 1817.
- هو خبيب بن إساف، من الأوس. انظر الفتح الرباني في ترتيب المسند 14/ 41.
- المسند 3/ 454.