البحث
حركة الدعوة 2
الوفود:
قال ابن إسحاق: وإنما كانت العرب تربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن قريشاً كانوا إمام الناس وهاديهم، وأهل البيت الحرام، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وقادة العرب لا ينكرون ذلك. وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافه، فلما افتتحت مكة، ودانت له قريش، ودوخها الإسلام، وعرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عداوته، فدخلوا في دين الله - كما قال عز وجل - أفواجاً، يضربون إليه من كل وجه. . (1).
وقدمت الوفود على المدينة من كل مكان. .
ومجيء الوفود إنما هو ثمرة من ثمار حركة الدعوة، ويعد كتاب السيرة السنة التاسعة سنة الوفود، وهو ما ذهب إليه ابن هشام.
قال ابن إسحاق: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، وضربت إليه وفود العرب من كل وجه.
قال ابن هشام: حدثني أبو عبيدة أن ذلك في سنة تسع، وأنها كانت تسمى سنة الوفود (2).
والواقع أن عدداً كبيراً من الوفود قدم المدينة في السنة التاسع، ولكن يجب أن نذكر أن بعض الوفود قدمت قبل ذلك منها: وفد مزينة ووفد عبد القيس، ووفد أشجع. . فقد قدمت في السنة الخامسة، وقد أشرت إلى ذلك في الفصل الثالث من الباب الثاني من هذه القسم.
كما قد وفد صداء لما انصرف صلى الله عليه وسلم من الجعرانة أي في العام الثامن. .(3).
كما تأخرت بعض الوفود إلى العام العاشر ومنها: وفد محارب، ووفد خولان، ووفد بني الحارث بن كعب (4)، ووفد غامد (5).
كما تأخر وفد النخع إلى العام الحادي عشر من منتصف المحرم منه. فكان آخر الوفود (6).
وقد حدث ابن سعد عن هذه الوفود وقد زاد عددها كما أوردها في الجزء الأولى من طبقاته على سبعين وفداً.
والأمر الذي نحب أن نلفت النظر إليه، أن هذه الوفود جيمعاً ليست ذات مهمة واحدة، بل تعددت أهداف الوافدين. . كما تعددت الدوافع إلى ذلك.
فمن هذه الوفود من كان مسلماً جاء يؤكد ولاءه والتزامه.
ومنها من كان مشركاً جاء يعلن إسلامه (7).
ومنها من جاء من تلقاء نفسه رغبة في الإيمان.
ومنها من جاء بدافع من الجو العام. . (8).
ومنها من لم يأت حتى قدمت عليهم السرايا، أو أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (9).
ولكن هذه الوفود جميعاً تؤكد أمراً واحداً، وهو ولاؤها لراية الإسلام وتأكيد التزامها به.
يدخلون في دين الله أفواجاً:
تحررت حركة الدعوة بعد فتح مكة من كل العوائق، سواء أكانت مادية عسكرية، أم كانت نفسية تقليدية. . فقد أصبحت قوة المسلمين هي القوة الأولى والوحيدة في الجزيرة. . وقد رأى الناس بأم أعينهم ان تلك الأصنام لا تضر ولا تنفع وأن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أزالتها عن بكرة أبيها ولم يحدث نتيجة لذلك أن تغير النظام الكوني. . ؟! وزالت الحجب عن الأعين، وتحرر الفكر من الوهم والخرافة بعد أن سيطرا عليه عدة قرون. . وزال طغيان الجاهلية. .
وأتيح للأعين أن ترى الطريق الحق. وأتيح للفكر أن يصحو من سكرته. . وعندها دخل الناس في دين الله أفواجاً.
قال ابن كثير: لما فتح الله مكة، دخلوا في دين الله أفواجاً، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيماناً، لم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام ولله الحمد والمنة.
وحتى نستطيع تقدير سعة انتشار الدعوة في هاتين السنتين بعد الفتح، يمكننا الاستفادة من عدد الذين حجوا حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذين زاد عددهم على مائة ألف. بينما كان عدد الفاتحين لمكة قبل سنتين عشرة آلاف.
ومما ينبغي إيضاحه هنا أن هذه السرعة في انتشار الإسلام لم تكن بعامل القوة أو الإكراه. . فلا إكراه في الدين. . ولم تكن إلا بسبب واحد هو إزالة العوائق التي كانت تمنع وصول الدعوة إلى الناس.
بل نستطيع القول بأن ثقافة الإسلام، وآيات القرآن، كانت قد وصلت إلى كل مكان من الجزيرة قبل ذلك، بل قد وصلت إلى القلوب، قبل أن تقر بها الألسنة. وإن حديث عمرو بن سلمة الذي ذكرناه قبل قليل ليعطينا تصوراً صحيحاً ودقيقاً كيف أن الناس في كل جزيرة العرب كانوا يتناقلون أخبار الإسلام بل ويتناقلون ما نزل من الآيات. ولنستمع إلى حديثه مرة أخرى قال: (. . وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا الرُّكْبَانُ فَنَسْأَلُهُمْ مَا لِلنَّاسِ؟ مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُونَ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ أَوْحَى إِلَيْهِ أَوْ أَوْحَى اللَّهُ بِكَذَا فَكُنْتُ أَحْفَظُ ذَلِكَ الْكَلَامَ وَكَأَنَّمَا يُقَرُّ فِي صَدْرِي. .).
وهكذا يتناقل الناس أخبار الإسلام، بل والآيات القرآنية، حتى حفظ عمرو بن سلمة قسماً لا بأس به من القرآن الكريم وذلك قبل أن يسلم أهله. . وهو يومئذ غلام صغير.
وهكذا جاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجاً. .
الدعوة والمجال العالمي:
رأينا كيف أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد باشر عمله في هذا الميدان مع مطلع السنة السابعة للهجرة حينما أرسل رسله يحملون كتبه إلى الملوك. .
وكانت غزوة مؤتة رداً عسكرياً على قتل الحارث بن عمير رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبي شمر الغساني. . وبداية لخوض غمار المعركة الخارجية في سبيل إيصال دعوة الله إلى الناس كل الناس.
ثم كانت غزوة تبوك، والتي بينت أن دعوة الإسلام ماضية في طريقها، وأن ما ربى عليه المسلمون من "عالمية هذا الدين" لم تكن مجرد فكرة، وإنما هي سمة من سمات هذه الدعوة، لا بد من تحقيقها في الواقع بعد أن تحققت في النفوس المؤمنة. .
ولقد حققت هذه الغروة أغراضها. . وبينت المنهج الإسلامي. ومن خلال التطبيق العملي، في كيفية معاملة أهل الكتاب ممن يرغب البقاء على دينه، وكيف تؤخذ منه الجزية تطبيقاً لنص القرآن الكريم.
وبهذا نتبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم بم يلتحق بالرفيق الأعلى حتى كان العرب جميعاً قد دانوا بهذا الدين الحنيف. وحتى وضعت الدعوة خطوات ثابتة في طريق التبليغ العالمي.
ولقد توفي صلى الله عليه وسلم وهو يؤكد أمره على إنفاذ جيش أسامة، وما جيش أسامة إلا الخطوة الثانية بعد تبوك في هذا الطريق. .
استمرار الكيد والتآمر:
على الرغم من فتح مكة، وخضوع معظم الجزيرة العربية لدولة الإسلام، فإن الكيد للإسلام والمسلمين لم يتوقف، ولم ترهب المتآمرين قوة الدولة، وإنما طوروا عملهم في الكيد مع ما يتناسب والوضع الجديد.
إن أمر النفاق في أواخر هذه المرحلة أصبح مكشوفاً ظاهراً، غير خاف على أحد، نتيجة لسلوكهم السيئ، وكذلك لنزول الآيات التي كانت تفضحهم، لهذا فقد كانوا بحاجة إلى مركز يؤمن لهم اللقاء دون أن تمتد إليه الأعين، وبعد أن أعملوا فكرهم وجدوا ضالتهم في بناء مسجد يكون مركزاً لأعمالهم، والمسجد مكان مأمون، ولن تمتد إليه الأعين، وحتى لو حصل هذا فالحجة قوية في أنهم كانوا في صلاة. .
وبني المسجد. . وزيادة في حبك خيوط القصة، وإتقان إخراجها، دعي الرسول صلى الله عليه وسلم ليصلي فيه. . وكان يومئذ على وشك الانطلاق إلى غزوة تبوك. . فوعدهم أن يكون ذلك بعد عودته. .
وفي طريق عودته صلى الله عليه وسلم من تبوك نزل عليه جبريل ليخبره بقصة المسجد، فأرسل إليه من هدمه وحرقه. .
ونزل في ذلك قوله تعالي
{وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًۢا بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَآ إِلَّا ٱلْحُسْنَىٰ ۖ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ۚ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ} (10).
إنه درس في الوعي للعوائق التي تهيأ لعرقلة سير الدعوة، والتي قد تكون تحت عناوين غاية في البعد عن طبيعة الكيد والمكر، وفي هذا ما فيه من البلاء، ولذا كان على المسلمين في المقابل أن يكونوا على درجة من الوعي، فلا تخدعهم العناوين والمظاهر عن حقائق الأمور.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن قوة الدولة إذا لم تمنع من استمرار الكيد. بل ومحاولة اتخاذ مراكز له. . فهذا يعني بدوره: أنه ينبغي أن تكون أعين المسلمين يقظة حتى ولو كانوا في وضع من القوة متين. . فإن تخطيط الكيد عادة يكون بعيد الغاية. .
المراجع
- سيرة ابن هشام 2/ 560.
- سيرة ابن هشام 2/ 559 - 560.
- طبقات ابن سعد 1/ 326.
- طبقات ابن سعد 1/ 299، 324، 239.
- زاد المعاد 3/ 671.
- طبقات ابن سعد 1/ 346، زاد المعاد 3/ 686.
- ومنهم وفد محارب، الذي قدم سنة عشر، وكانوا عشرة نفر، فأنزلوا دار رملة بنت الحارث، وكان بلال يأتيهم بغداء وعشاء، فأسلموا، وقالوا: نحن على من وراءنا. [طبقات ابن سعد 1/ 299].
- يبين لنا ذلك الخبر التالي: قال والواقدي: عن أبي النعمان عن أبيه من بني سعد هذيم، قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافداً من نفر من قومي، وقد أوطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاد غلبة، وأداخ العرب، والناس صنفان: إما داخل في الإسلام راغب فيه، وإما خائف من السيف. [زاد المعاد 3/ 652].
- ومن هؤلاء، بنو الحارث بن كعب، فقد بعث صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في أربعمائة من المسلمين في شهر ربيع الأول سنة عشر إليهم بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثاً، ففعل. . فاستجابوا له. . وأرسلوا وفدهم [طبقات ابن سعد 1/ 339] ومنهم كذلك صداء. [طبقات ابن سعد 1/ 326].
- سورة التوبة: الآيتان 107- 108.