1. المقالات
  2. برنامج طريق النور
  3. من الذي شج رأس أبو جهل؟

من الذي شج رأس أبو جهل؟

51 2025/07/23 2025/07/30

في ظلال مكة الحالكة، وبين قسوة القلوب المظلمة، خرجت قافلة الإيمان تحمل بين طياتها الأمل واليقين. هربت إلى أرض الحبشة، بعدما تكالبت المكائد وتآمر الطغاة المعتدين.

ولكن بعدها حدث ما لم يكن في الحسبان؛ سجد أعداء الحق بلا قيد ولا عنوان، سجدوا وهم لا يفقهون، خشعوا وهم لا يشعرون، فانقلبت الموازين وانكشف المستور، حينما نادى الحق في قلوبهم بصوت مسموع.

"أربعة عشر رجلاً وأربع نساء.. في رحلة سرية تحت جنح الظلام"

دخلت السنة الخامسة من النبوة، واشتد البلاء على المؤمنين في مكة حتى بلغ الألم ذروته، حيث تفنّن المشركون في أساليب التعذيب، فالسياط كانت تنهال عليهم بلا رحمة، والنار تحرق أجسادهم، والحديد يلهب جلودهم.

 وكاد اليأس أن يطرق قلوبهم، لولا أن نور الإيمان كان يضيء دربهم وسط ظلام الظلم والقهر.

كان بإمكان الله عز وجل أن ينقذهم بكلمة "كن"، فيكون لهم الفرج، أو بمعجزة تخرق قوانين الكون، لكن الحكمة الإلهية أرادت أن يواجهوا الابتلاء بصبر وعمل، وكان كتاب الله هو دستورهم: 

{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ، وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ، إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}

[الزمر: 10].

فقرر النبي ﷺ أن يجد لأصحابه ملاذًا آمنًا، بعيدًا عن بطش قريش وظلمها، أرضًا واسعة ينعمون فيها بالعدل والسلام.

 وكانت الحبشة هي تلك الأرض، وكانت تحت حكم ملكٍ قال عنه النبي:

"لا يُظلم عنده أحد"

. فأمرهم بالهجرة إليها، في خطوة كانت مليئة بالصعوبات والتحديات التي يبددها ثباتهم على الإيمان. 

"من لهيب الظلم إلى ظلال الأمان: رحلة النجاة "

وفي ليلة هادئة، حين غطّت مكة في صمتها، تحرّك الأبطال الأربعة عشر، ومعهم أربع نساء، قلوبهم معلّقة بالله، يسيرون بحذر، والخوف يتسلل إلى أعماقهم، لكن الأمل بالله كان أشد. خرجوا من بيوتهم كأطياف الليل، يتوارون عن أعين الطغاة، تاركين خلفهم أرض التعذيب والقهر، ومتجهين نحو البحر، عيونهم على الأفق، وقلبهم معلق بوعد نبي الرحمة الذي قال لهم:

"أرض الله واسعة".  

لقد كان أكثر المهاجرين من أشراف مكة، يتقدمهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، وزوجته رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم، حبيبة قلب النبي وأقرب الناس إليه. فتخيّل كيف ذاق النبي ألم الفراق، مثلما ذاقه أصحابه المؤمنون. نعم، إنه القائد الذي يشارك قومه مشاعرهم، يتألم كما يتألمون، ويصبر كما يصبرون.

ورغم احتياطهم وحذرهم الشديد، انتشر خبر رحيلهم في الصباح، وانطلقت خلفهم عيون قريش الحاقدة، تسابق الزمن لإعادتهم إلى العذاب. لكن الله أتمّ نوره، ونجّاهم من تلك الأيادي الملوّثة، فقد وصلوا إلى السفينة في آخر لحظة، ورحلوا بها بعيدًا عن ظلم مكة. وما أن وصلوا إلى أرض الحبشة، حتى استقبلهم النجاشي بحفاوة وعدل، ليعيشوا في سلام وطمأنينة، كما وعدهم رسول الله ﷺ تمامًا. (1)

سجد كل من في مكة

في تلك الليلة الرمضانية، حين عمّ السكون بيت الله الحرام على غير المعتاد، بدا وكأن مكة حبست أنفاسها.

 المشركون الذين اعتادوا الصخب والضجيج كلما قرأ محمد صلى الله عليه وسلم القرآن، وجدوا أنفسهم في لحظة نادرة، صامتين كأن قلوبهم قد أُسرت دون أن يشعروا. كانت نظراتهم مشدودة، وآذانهم منصتة، وكأنهم في انتظار شيء لا يعلمونه، ولكن لا يستطيعون مقاومته.

وقف النبي صلى الله عليه وسلم عند الكعبة، وحوله أصحابه المؤمنون، والمشركون في دوائر مراقبة، وكأن الزمن توقف في تلك اللحظة. بتؤدةٍ وثبات، بدأ النبي يتلو عليهم سورة النجم

 (وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ (3)إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ (4) عَلَّمَهُۥ شَدِيدُ ٱلۡقُوَىٰ (5) ذُو مِرَّةٍ فَٱسۡتَوَىٰ (6) )

الآيات خرجت كالسهم، تخترق الصدور، تلامس القلوب المتحجرة، وتزلزل النفوس المعاندة. كان كل حرف منها كنسمة تخفف أثقال العناد من على صدورهم، وكأن السورة قد أُرسلت لتجرف ركام الجهل والعناد، وتفتح نوافذ النور في أعماقهم. 

 ( أَفَرَءَيۡتُمُ ٱللَّتَ وَٱلۡعُزَّىٰ (19) وَمَنَوٰةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ (20) أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلۡأُنثَىٰ (21))  

ثم أخذ يخبرهم بنتيجة كفر الأمم الأخرى

( وَأَنَّهُۥٓ أَهۡلَكَ عَادًا ٱلۡأُولَىٰ (50) وَثَمُودَاْ فَمَآ أَبۡقَىٰ (51) وَقَوۡمَ نُوحٖ مِّن قَبۡلُۖ إِنَّهُمۡ كَانُواْ هُمۡ أَظۡلَمَ وَأَطۡغَىٰ (52) وَٱلۡمُؤۡتَفِكَةَ أَهۡوَىٰ (53)) 

المشركون استمعوا رغمًا عنهم، وكأن القرآن جذبهم بأسلوبه الأخاذ، فلم يعد للصخب مكان ولا للأصوات المرتفعة وجود.

ورسول الله يكمل تلاوة السورة بأكملها بصوت شجي  إلى أن وصل إلى آخرها : 

( أَفَمِنۡ هَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ تَعۡجَبُونَ (59) وَتَضۡحَكُونَ وَلَا تَبۡكُونَ (60) وَأَنتُمۡ سَٰمِدُونَ (61)) 

ثم خُتمت السورة:  

( فَٱسۡجُدُواْۤ لِلَّهِۤ وَٱعۡبُدُواْ۩ (62))

فسجد محمد صلى الله عليه وسلم وسجد المؤمنون خلفه، ولكن الصدمة الكبرى كانت حين انحنت رؤوس المشركين أيضًا، وسجدوا معه! لم يكن في قلوبهم إيمان، ولكن أجسادهم انقادت لا شعوريًا أمام قوة الآيات.

رفع النبي بصره فرأى المشهد المذهل؛ المشركون الذين كانوا قبل لحظات يعاندون ويجادلون، ساجدين معه بقدرة الله.

وعندما قاموا من سجودهم، بدت عليهم علامات الفزع والدهشة، كأنما استيقظوا من حلمٍ لم يفهموه. 

فسألهم النبي: "أآمنتم؟" لكن الجحود تملّكهم، ورغم أنهم سجدوا بأجسادهم، أرواحهم أبت أن تستسلم للحق. وعندما تساءل المشركون الذين لم يشهدوا الموقف: "كيف سجدتم؟"، كان الإنكار أسرع من الاعتراف، فقالوا كذبًا: "تذكرنا آلهتنا فسجدنا لها!" 

لقد انحنت أجسادهم أمام كلمات الله، لكن قلوبهم أصرّت على العناد، واختاروا الطريق المعوج عن وعي، هاربين من مواجهة الحقيقة التي باتت أوضح من الشمس.

(2).

اللحظة التي فجّرت أسد مكة

في ذلك اليوم، وبينما كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم جالسًا عند الصفا، مرّ عليه أبو جهل وهو ينفث حقداً عليه ، فسبّه بأقبح الألفاظ، وآذاه أذىً شديدًا، ولم يكتفِ بذلك، بل تطاول أكثر، فأخذ حجرًا وضرب به رأس النبي حتى سالت الدماء. 

وقف النبي صلى الله عليه وسلم دون ردّ، لكن تلك اللحظة لم تمر مرور الكرام.  

كانت هناك فتاة جارية مولاة لعبد الله بن جدعان قد شاهدت كل ما حدث. فحملت الفتاة هذا المشهد المؤلم في قلبها، حتى التقت حمزة بن عبد المطلب، الفارس المغوار الذي عاد لتوه من الصيد، وقبل أن يرتاح أو يلتقط أنفاسه، ركضت إليه الجارية وقالت بلهفة: "يا أبا عمارة! لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد!"  

حمزة، مشدود القلب بابن أخيه، سألها: "وماذا صنع؟"  

فأخبرته الفتاة بما رأته

وهنا تجمعت مشاعر الحب والغضب في قلب حمزة. لم يكن فقط غيظه من الإهانة التي لحقت بابن أخيه، بل من تصرف أبي جهل الذي جاوز كل الحدود. 

لحظة الانفجار: حمزة يواجه أبا جهل

انطلق حمزة بخطوات ثابتة، والنار تشتعل في عينيه، متوجهاً إلى المسجد الحرام حيث كان أبو جهل يجلس بين قومه متباهيًا. 

عندما وصل لم ينطق بكلمة، بل اقترب منه بجرأه وإقدام، وكل الأنظار مشدودة إليه. ثم فجأة، رفع حمزة قوسه وهوى بها بقوة على رأس أبي جهل، فسال دمه أمام الجميع. وسقط أبو جهل مذهولاً والدماء تغمره، بينما وقف حمزة فوقه كعاصفة لا تُصد.

ثم قال له حمزة بصوت غاضب وحازم: "أتشتمه وأنا على دينه؟ أقول ما يقول، فرد عليّ إن استطعت!"  

لم يكن حمزة قد أسلم بعد، ولكن دفاعه عن ابن أخيه دفعه للتصريح بشيء لم يقله من قبل. 

فقام رجال من بني مخزوم  لنصرة أبي جهل، ولكن أبو جهل، وقد غمره الذل، قال لهم: "دعوه، فقد سببت ابن أخيه سبًّا قبيحًا."  

الليلة التي ولدت فيها روح حمزة من جديد

عاد حمزة إلى بيته، ولكن عقله كان في معركة شرسة لا تهدأ، تتلاطم فيها الأفكار كأمواج عاتية: "ماذا صنعت؟ هل أنا الآن على دين محمد؟ هل يمكنني أن أتراجع؟" تلك الأسئلة كانت كالسيوف التي تطعن قلبه في كل لحظة. لم يجد حمزة مهربًا من هذا الصراع إلا أن يرفع يديه للسماء، ويطلق دعاءً من أعماقه:

 "يا رب، إن كان ما فعلتُ خيرًا، فاجعل له تصديقًا في قلبي، وإن كان شرًا، فاجعل لي مخرجًا!"

وفي لحظةٍ، انبثق نور اليقين في قلبه. دون تردد، وتوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه جندي تائه يبحث عن قائده. جلس أمامه، وسمع الكلمات التي كانت كالسيف تقطع كل شكوكه، فكانت الآيات تدخل إلى قلبه كنسيم هادئ يطفئ نيران الشك. 

وفجأة، انقلبت الدنيا في عينيه، وقال بقوة وإيمان: "أشهد أنك الصادق، وأني لا أبدل هذا الدين بما أظلته السماء."

في تلك اللحظة، لم يعد حمزة مجرد رجل قوي في جسده، بل أصبح أسدًا يزأر بالإيمان، يعز الله به الإسلام، وتتحطم أمامه جبال الشك والأوهام.

(3)

الله أكبر! شرح الله صدر حمزة! أسلم أسد الله الذي أعزّ الله به الدين.

بعد ثلاثة أيام فقط من إيمان حمزة، انضم إلى صفوف المؤمنين رجل آخر، رجل لن يكون إيمانه عاديًا، بل سيكون شرارة تُشعل ثورة تغيّر مجرى التاريخ إلى الأبد. 

إنه الرجل الذي سيهز الله به أركان الملوك العظام، كسرى وقيصر، ويزلزل عروشهم تحت قدميه.

 من هو هذا العملاق الذي سيبدل الله به وجه الأرض؟ هذا ما سنكتشفه في الحلقة القادمة من برنامج طريق النور، فترقبوا المفاجأة الكبرى!

المراجع

  1. كتاب اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون - موسى بن راشد العازمي - الجزء الأول - صفحة 314 إلى 316
  2. كتاب اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون - موسى بن راشد العازمي - الجزء الأول - صفحة 317 إلى 319
  3. كتاب البداية والنهاية - ط السعادة - ابن كثير - الجزء الثالث - صفحة 33
المقال السابق المقال التالى
موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day