1. المقالات
  2. برنامج طريق النور
  3. معركة بلا سيوف في بلاط النجاشي

معركة بلا سيوف في بلاط النجاشي

25 2025/08/04 2025/08/09

في مواجهة حاسمة، اجتمعت المؤامرات والهدايا في حضرة الملك، بينما وقف الحق شامخًا أمام كل التحديات. فهل ستنتصر الحيلة والمخادعات، أم أن كلمات الحق ستقلب الموازين وتكشف زيف الظلم؟

مكر الثعالب وعدل الملوك

أرسلت قريش اثنين من أدهى رجالها: عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، محملين بالهدايا النفيسة للنجاشي، ملك الحبشة العادل. و لم تكن الهدايا موجهة فقط إليه، بل أيضًا لحاشيته والبطارقة والأساقفة الذين يحيطون به، في محاولة لشراء ولائهم. 

كانت هذه الهدايا تُنثر كما يُنثر الطعم للسمك، بغية السيطرة عليهم وكسب تأييدهم دون مقاومة.

فجلس الملك معهما، وأصغى  الجميع لما سيقولانه.

ثم بدأ عمرو ابن العاص بالكلام وقال: 

أيها الملك! إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء

كان عمرو يستخدم الحيلة كما يُستخدم السيف المسموم، فقام بالتحقير من شأن المسلمين مع أن معظم المهاجرين من أشراف مكة. 

ثم أكمل: فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك

فهم لم يتبعوا دين آبائهم ولم يتبعوا دينك ايضاً لإبرازهم على إنهم لا هوية دينية لهم.

ثم قال: وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم؛ لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً

يعني: أنا مرسل إليك من قبل أشراف ورؤساء وزعماء مكة، وهذه إشارة خفية بالتهديد بقطع العلاقات بين مكة والحبشة، وأن هؤلاء الأشراف الذين أرسلونا هم آباؤهم وأعمامهم، فلهم الحق بهم.

وقبل أن ينطق النجاشي، سارعت الحاشية التي أُغدقت عليهم الهدايا، قائلين: لقد صدقا أيها الملك فسلّمهم إليهما، فليردوهم إلى قومهم وبلادهم فقومهم أعلم بهم وبدينهم.

 بدت الخطة تسير كما خطط لها عمرو، فهو لا يريد أن يستمع الملك لهم، لحملهم في جعبتهم سلاح لا يستطيع مواجهتة مهما أغدق من هدايا وأعطى من عطايا! 

لكن النجاشي بدا واضحاً أنه فطن لحيلهم، فقال بغضب:

لا والله لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان -غلمان سفهاء خرجوا عن دين الآباء وفعلوا كذا وكذا- أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني.

بدأ القلق يظهر على ملامح الكفار، بعد أن بعث النجاشي إلى المسلمين وناداهم إليه.

بين التوتر والثبات.. جعفر يقلب الطاولة 

كان المشهد مهيبًا، النجاشي في وسط مجلسه الفخم، يحيط به الأساقفة والبطارقة، والوزراء في أماكنهم المهيبة. وعلى جانب، يقف عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ومن معهم من قريش، وهم يتنفسون بصعوبة من القلق. وعلى الجانب الآخر، وقف جعفر بن أبي طالب ومن معه من المسلمين، وجوههم تحمل الثبات، لكنها لا تخلو من التوتر.

بدأ النجاشي حديثه بسؤال واضح لا لبس فيه: "ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من هذه الأمم؟"

تقدم جعفر بن أبي طالب بثبات،وقال:

 (أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعف) كانت كلماته كالسيف القاطع الذي يقطع ظلمات الجهل، ويمزق ستار التزييف الذي حاول عمرو بن العاص أن ينسجه حولهم. فقد نجح جعفر في أن يعيد إلى الأذهان البشاعة التي كانت تميز حياة الجاهلية، حيث الفساد الديني والانحلال الأخلاقي.

من الذي وقف ضد النور السماوي؟ ( إنهيار الأقنعة ) 

وبعد أن صوّر حالهم في ظلمات الجاهلية، جاء التحول الحاسم الذي غيّر مجرى حياتهم، فقال جعفر: "حتى بعث الله إلينا رسولًا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه"

أي: إن من حمل إلينا هذه الرسالة ليس غريبًا، بل هو رجل شهدت له قلوبنا قبل ألسنتنا بصفائه وأمانته.

 عرفناه نقيًا في نسبه، صادقًا في قوله، طاهرًا في سيرته، فكان كالنور بيننا، يضيء بالحق حيثما حل. فلم يكن مبعثه حدثًا عابرًا، بل تجليًا لما عرفناه فيه من خير ونقاء طوال حياته.

ثم استعرض جعفر مبادئ الإسلام قائلاً:  

(فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام )

فكان التوحيد هو الأصل الثابت الذي جاءت به كل الرسل وانطلقت منه كل الرسالات، من عيسى إلى محمد ﷺ، تماماً كالشجرة الراسخة جذورها في الأرض، و أغصانها ممتده عبر الأزمان.

ثم أكمل جعفر قائلاً : 

(فصدّقناه وآمنا به، واتّبعنا ما جاء به، فعبدنا الله وحده، فلم نكفر به شيئاً، وحرمنا ما حرم لنا، وأحللنا ما أحل لنا).

ثم أخبره، بإنهم لم يكتفوا فقط بإنكار النور الذي جائهم، بل حاربوه وحقدوا عليه وعذبوا من دخل إليه: 

( فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث)

فكانت النتيجة: (فلمّا ظلمونا و قهرونا وشقّوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك واخترناك عمن سواك، ورغبنا في جوارك ورجونا ألّا نظلم عندك أيّها الملك)

كان كلام جعفر نقياً خالٍ من النفاق والكذب، فلم يكسب قلب النجاشي فحسب بل سلب قلب الحاشية والوزراء الذين كانوا في صف عمرو من قبل، فمالوا إلى المسلمين وتأثّروا بهم.

ماذا حدث عندما سمع النصارى القرآن لأول مرة؟ 

عندما خيّم الصمت واشتاقت القلوب لسماع الحق، سأل النجاشي جعفر:

هل عندك مما جاء به عن الله من شئ؟ 

في تلك اللحظة المهيبة، كان جميع النصارى يتلهفون لسماع القرآن، وكأن قلوبهم عطشى تنتظر غيث السماء. ارتسم الشوق على وجه النجاشي كأرض تنتظر أول قطرات المطر، بينما عمرو وصاحبه يرتجفان خشية أن يفضحهم نور الوحي. 

والمسلمون، بقلوب متعلقة بربهم، كانوا واثقين أن كلمات الله ستفتح أبواب الخير لهم. 

وفّق الله جعفر إلى إختيار سورة مريم التي تتحدث عن أنبياء الله عيسى وزكريا ويحيى عليهم أفضل السلام.

بدأ جعفر يتلو الآيات الجميلة على مسامع النجاشي وحاشيته..

(كٓهيعٓصٓ (1) ذِكۡرُ رَحۡمَتِ رَبِّكَ عَبۡدَهُۥ زَكَرِيَّآ (2) إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ نِدَآءً خَفِيِّا (3)قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّا (4) وَإِنِّي خِفۡتُ ٱلۡمَوَٰلِيَ مِن وَرَآءِي وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرا فَهَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنۡ ءَالِ يَعۡقُوبَۖ وَٱجۡعَلۡهُ رَبِّ رَضِيّا (6) يَٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ ٱسۡمُهُۥ يَحۡيَىٰ لَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ مِن قَبۡلُ سَمِيّا (7))

فبدأوا جميعاً بالتأثر بها.. ولا زال  جعفر مستمراً بتلاوتها 

( فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنَ ٱلۡمِحۡرَابِ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَيۡهِمۡ أَن سَبِّحُواْ بُكۡرَةً وَعَشِيا (11) يَٰيَحۡيَىٰ خُذِ ٱلۡكِتَٰبَ بِقُوَّة وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحُكۡمَ صَبِيا (12) وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةً وَكَانَ تَقِيًا (13) وَبَرَّا بِوَٰلِدَيۡهِ وَلَمۡ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًا (14) وَسَلَٰمٌ عَلَيۡهِ يَوۡمَ وُلِدَ وَيَوۡمَ يَمُوتُ وَيَوۡمَ يُبۡعَثُ حَيًّا (15) وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَرۡيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتۡ مِنۡ أَهۡلِهَا مَكَانًا شَرۡقِيًّا (16)فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابًا فَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراَ سَوِيًّا (17) قَالَتۡ إِنِّيٓ أَعُوذُ بِٱلرَّحۡمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّا (18) قَالَ إِنَّمَآ أَنَا۠ رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَٰمًا زَكِيّا (19) قَالَتۡ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰم وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَر وَلَمۡ أَكُ بَغِيّا (20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّن وَلِنَجۡعَلَهُۥٓ ءَايَةً لِّلنَّاسِ وَرَحۡمَةً مِّنَّاۚ وَكَانَ أَمۡرًا مَّقۡضِيّا (21)) 

لم تتحمل قلوب النصارى إعجاز الآيات فبكى النجاشي حتى بلل لحيته ومعه حاشيته ووزرائه.

بعدها لم يكن صعباً على النجاشي اتخاذ القرار، فقال: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة

  التفت النجاشي إلى عمرو وعبد الله ثم قال بحزم: انطلقا فوالله لا أسلّمهم إليكما أبداً، ولا يُكادون(1)

صوت الحق يعلو في بلاط النجاشي ( الحقيقة الصادمة)

كان الغضب يتأجج في قلب عمرو كالنار المتقدة التي لا تهداً، فقال: "والله لأنبهنّه غدًا عيبهم عنده". وفي اليوم التالي، عاد إلى النجاشي وقال: "أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيمًا".

فأرسل النجاشي في طلب المسلمين مرة أخرى، وكان السؤال واضحًا: "ما تقولون في عيسى بن مريم؟" كان الموقف حاسمًا، فبأقل كلمة خاطئة قد تُزهق أرواح المسلمين جميعًا، لكن جعفر بن أبي طالب كان ثابتًا كالصخرة وقال: "نقول فيه الذي جاء به نبينا: هو عبد لله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء".

عندها، التقط النجاشي عودًا صغيرًا من الأرض وقال: "والله ما عدا هذا الكلام شيئًا مما جاء به عيسى بن مريم".

ما لا يعلمه الكثيرون أن النجاشي رحمة الله كان عالما بالإنجيل أكثر من الأساقفة والبطارقة ذات أنفسهم فلم يتغاضى عن إعتراف عيسى بالوحدانية لله في إنجيل  (مرقس 12:29) : "الرب إلهنا رب واحد"

وفي سفر إشعياء الإصحاح 45 : 5 "أنا الرب وليس آخر. لا إله سواي "

و سفر هوشع الإصحاح 13 : 4 " وإلهاً سواي لست تعرف "

وغيرهم الكثير من الإعترافات التي ينكرها النصارى.

تعالت أصوات الاحتجاج بين الحاضرين، لكن النجاشي قال بحزم: "وإن نخرتم! والله هذا الذي جاء به عيسى ابن مريم!". ثم أمر بردّ الهدايا إلى عمرو وعبد الله قائلاً: "ردّوا عليهم هداياهم  لا حاجة لنا بها".

إنكسار الطغيان وانتصار الإيمان ( الملاذ الآمن ) 

خرج عمرو وعبد الله مهزومين، كما وصفتهم أم سلمة: "مقبوحين مردودًا عليهما ما جاءا به".

ثم قال النجاشي للمسلمين: 

" اذهبوا فأنتم الآمنون، من سبّكم غَرِم، من سبّكم غَرِم، فما أحب أن لي جبلاً ذهباً، وأني آذيت رجلاً واحداً منكم "

فظل المسلمون في الحبشة خمسة عشر عامًا يعيشون بأمان وسلام تحت رعاية النجاشي العادل، تقول أم سلمة عن تلك الفترة: "أقمنا عند النجاشي بخير دار مع خير جار".(2)

بعد أن فشلت كل محاولات الكفار السابقة 

سيبدأ الكفار في  كسر كل عاداتهم وأعرافهم في سبيل القضاء على دين الأنبياء؟ 

فيا ترى ما الذي سيفعلوه المسلمين؟

 وما الحصار الذي سيفرضوه عليهم؟ 

هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة من برنامج طريق النور

 

المراجع

  1. كتاب اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون - موسى بن راشد العازمي - الجزء الأول - صفحة 377 إلى 381
  2. كتاب سيرة ابن هشام ت السقا - عبد الملك بن هشام - الجزء الأول - صفحة 337 و 338
المقال السابق
موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day