البحث
لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ
عَنْ أَبِي ذَرٍّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ".
كان النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يحب أبا ذر حباً شديداً؛ لإخلاصه وزهده وورعه وتقواه، مع شبابه المتدفق بالقوة والحيوية، وشدة بأسه في الحرب مع شدة ميله إلى السلم والموادعة.
فقد كان – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – طرازاً فريداً، يتميز عن كثير من أقرانه بالرأفة والحنان والشعور الفياض والإحساس المرهف، حتى أنه كان يخشى على نفسه من أدنى شيء يتوقع أن فيه ظلماً ما قد يقع على شخص ما وهو لا يدري فيدخل به النار.
إنه كان يخشى الله خشية العلماء العارفين، الذين يراقبون الله في جميع تصرفاتهم: صغيرها وكبيرها، ويحاسبون أنفسهم محاسبة الخصم لخصمه، ويتهمونها دائماً بالتفريط في جنب الله عز وجل.
لهذا كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يوليه عناية خاصة، فيوصيه بما ينفعه في دينه ودنياه، ويناديه بكنيته تودداً إليه وتلطفاً به، ويفصح له عن حبه له كما جاء في حديث سابق: " يَا أَبَا ذَرٍّ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ".
وكيف لا يحبه رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وهو الذي بروحه وكيانه كله، وصحبه في حله وترحالة، ونهج نهجه في عاداته وعباداته، وباع نفسه وماله لخالقه ومولاه، وكان على مثال الخلق الفاضل والكمال الوافر والسلوك النبيل.
إنه رجل اكتملت فيه معاني الرجولة، وبطل اتسم بكل معالم البطولة.
إنه من الذين قال الله فيهم: { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } (سورة النور: 37).
ومن الذين قال الله عليه فيهم: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } (سورة الأحزاب: 23).
وإذا كان أبو ذر – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – بهذه المنزلة فلماذا قال له الرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –"إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا".
والجواب: أن ضعفه نابع من ضميره الحي وقلبه اليقظ، وحسه المرهف وشعوره النبيل، فهو ضعف محمود؛ لأنه يحمل صاحبه على توقي الظلم بكل صوره، واتقاء الشبهات بجميع أشكالها، ومؤاخذة النفس على تصرفاتها العشوائية وإهمالها في بذل الجهد في تحري العدل المطلق بين الناس.
ولا شك أن مؤاخذة النفس بكل صغيرة وكبيرة من غير هوادة أمر شاق وعسير، والرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لا يريد أن يشق على أبي ذر، رحمة به وعطفاً عليه، لهذا أوصاه بهذه الوصية ليوفر عليه جهداً هو في غنى عنه، فليدعه لمن هو أقدر منه.
والمرء قد يكون قوياً في أمر ضعيفاً في آخر، وقد يكون قادراً على تحقيق أمر يعجز عنه آخر والعكس صحيح.
والرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كان يضع الرجل المناسب في المكان المناسب، فأبو ذر لديه ما يشغله، ومعه من الأعباء ما يكفيه، وقد رآه الرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – غير أهل لتحمل مشقة الإمارة بين أثنين، وغير أهل لأن يتولى مال يتيم، وهو على غير ذلك أقدر.
وذلك لأن الإمارة وظيفة تحتاج إلى رجل يتفرغ لها على حساب غيرها من شئون الدين والدنيا، فهي مسئولية جسيمة وتبعة ثقيلة، وأبو ذر رجل زاهد ورع عادل، مشغول بدينه عن دنياه.
وهذه الوظيفة تحتاج – أيضاً – ممن يتولاها إلى شيء من الشدة في بعض المواطن، وأبو ذر لا يشتد إلا على أعداء الدين.
ونحن نعلم أن القسوة دواء ناجع لبعض الأدواء المستعصية، فلابد منها، إذا لم يكن هناك بديل عنها.
وَقَسَا ليَزْدَجِرُوا وَمَنْ يَكُ حَازِمًا
فَلْيَقْس أَحْيَانًا عَلَى مَنْ يَرْحمُ
وكان أبو ذر – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – يجب أن يلقى أصحابه وليس في نفوسهم من شيء، وليس في نفسه – أيضاً – منهم شيء، وهذه خليقة يتحلى بها العظماء من الرجال، وله برسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فيها أسوة، فقد كان – عليه الصلاة والسلام – يحب أن يطلع على أصحابه وليس في نفسه شيء من واحد منهم، كما سيأتي بيانه في حديث آخر.
وأمير القوم رجل ينبغي أن يكون سياسياً بارعاً، يحاور ويداور ويراوغ أحياناً من أجل مصلحة من مصالح القوم، يراها لا تتحقق إلا بذلك.
والسياسة فن لا يجيده كثير من الناس، ولها من الوسائل ما لا يرضى عنها أمثال أبي ذر؛ فإنه رجل من غفار، وهم قوم أشداء في الحق وفي الباطل، فلما أسلم تحولت شدته إلى الحق وحده، فسلبته الروح السياسية إلى حد ما، فكان يواجه المخطيء بخطئه دون هوادة، ويقول للظالم: أنت ظالم بلا مواربه، ويقول كلمة الحق، ولا يبالي أين وقعت، ولا يخشى في الله لومة لائم.
وهذه هي الشجاعة الأدبية في أسمى صورها وأرقى معانيها.
لكن السياسية تحتاج إلى مرونة، ليست عند أبي ذر – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – وهي نقطة الضعف فيه، فالأولى له ألا يتولى أمر اثنين إذا كان هو ثالثهما، فليكن تابعاً أفضل من أن يكون متبوعاً.
وقد شهد له النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بهذه الشجاعة النادرة في إحقاق الحق وإبطال الباطل فقال: "ما أقلت الغيراء"، ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر".
وهذا القول الذي قاله الرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يعتبر تحليلاً لشخصية أبي ذر – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ –، بل وتلخيصاً لحياته كلها.
وقد قال علي – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – حين أطلت الفتن برأسها في صفوف المسلمين: ولم يبق اليوم أحد لا يبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر.
فقد ثبت على الحق لم يتزحزح عنه قيد شعره، واجتنب الفتن: ما ظهر منها وما بطن، وابتعد عن ساحة السياسة من أولها إلى آخرها، وحارب الترف بكافة أنواعه، وطلق بائتاً لا رجعة فيه، ووضع لنفسه منهجاً لم يحمل عليه غيره، وكان على الصراط المستقيم حتى لقي ربه عز وجل.
وقصة كفاحه منذ أسلم حتى فارق الدنيا قصة مليئة بالعظات والعبر، تقدم طرف منها في هذا الكتاب، وستأتيك أطراف أخرى منها إن شاء الله تعالى.
والآن ننظر في هذه الوصية نظرة أخرى على ضوء ما ذكرناه، لنأخذ منها ما ينفعنا في ديننا ودنيانا.
قوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – : "إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي".
أي أراك ضعيفاً عن تحمل أعباء الإمارة وتبعاتها، فهي تحتاج إلى ما ليس عندك، وأنت مشغول عنها بما هو أولى لك، والمشغول لا يُشغل، فقد هداك الله إلى سبيل هو خير لك من غيره، فاختر ما اختاره الله لك، وكن حيث وضعك الله، ولا تتمن شيئاً يأتيك من روائه شر أنت في غنى عنه، فرحمة الله أوسع لك من شيء تتمناه وفيه وبال عليك.
وكان أبو ذر – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قد طلب الإمارة يوماً، فأبى عليه وأراه مغبتها وعواقبها.
روى مسلم في صحيحه، أنه – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا".
وقوله – عليه الصلاة والسلام - : " وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي" إفصاح له عن مكنون قلبه وترضية له وتطيب لنفسه حتى يتقبل هذه الوصية بقبول حسن لا تشويه شائبة، فيعمل بها فينجو من شر الإمارة وتولي مال اليتيم، ولا يكاد ينجو من خطرهما إلا أقل القليل من الأتقياء الأخيار.
وقد كان أبو ذر صفي رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وحبه في الدنيا، فأراد أن يكون صفيه وحبه في الجنة.
وقوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: "لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ" أصله: "لَا تَتأَمَّرَنَّ" فحذفت إحدى التاءين تخفيفاً.
والتأمر طلب الإمارة، وهي الرياسة.
والرياسة من الأمور الضرورية، وهي أنواع ترد جميعها إلى رياسة عامة ورياسة خاصة.
والرياسة العامة: هي الخلافة، ويليها الولاية على الأقطار، وتحتها وظائف كثيرة.
والرياسة الخاصة: هي ما كانت متعلقة بأسرة أو بجماعة أقلها ثلاثة، لقوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –"إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ".
أي اجعلوه أميراً تأتمرون بأمره وتنتهون بنهيه في غير معصية الله تعالى.
ويختار القوم للإمارة أتقاهم وأصدقهم، وأذكاهم وأعلمهم بأمور الدين وشئون الدنيا، وأحسنهم منظراً ومخيراً، وأجملهم تصرفاً مع إخوانه، وأحلمهم على الصغير والكبير، إلى غير ذلك مما تتطلبه الإمارة.
وإذا كان الرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قد نهاه أن يطلب الإمارة على اثنين فالنهي على الأكثر متأكد، وبخاصة إذا كانت الإمارة على بلد كبير، أو قطر واسع.
فللإمارة رجالها، وللعبادة أهلها، وللحرب فرسانها.
فسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
وقوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: "وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ" أصله: لا تتولين، فحذفت التاء تخفيفاً على ما ذكرنا في قوله: "لَا تَأَمَّرَنَّ".
والتولي على مال اليتيم مهمة شاقة وتبعة ثقيلة، لا ينبغي أن يعرض الإنسان نفسه لها، إلا إذا كان ذلك مما يجب عليه كالعم والأخ وغيرهما ممن له حق الولاية عليه في نفسه وماله.
أو كان يخشى أن يلى أمر ماله من لا يخاف الله ولا يتقيه ولا يحسن التصرف فيه، فعندئذ تتعين الولاية على التقي الكفء، وليصبر على ما ابتلاه الله به ويبذل أقصى ما في وسعه لحفظ ماله وتنميته بالطرق المشروعة على النحو المبين في كتب الفقه.
والتولي على مال اليتيم في نظري أصعب من نقل جبل، ولكنه يسير على من يسره الله عليه.
ونهي الرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أبا ذر عن تولي مال اليتيم ليس على إطلاقه، ولكنه منصب على الولاية من غير داع يقتضيه.
والعاقل من يبتعد عن مواطن الشر ومواقع الفتن ما أمكن.
"فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فقد اسْتَبْرَأَ لدِينَهُ وَعرْضَهُ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ" كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
واليتيم: صغير مات أبوه، فإذا بلغ رشده زال عنه يتمه وسلم إليه ماله.
قال تعالى: { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا } (سورة النساء: 6).
وأبو ذر– صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لا يسعفه طبعه على حبس مال اليتيم عليه وتنميته له كما ينبغي، وهو الذي يبغض المال البعض كله، ويأبى أن يبيت في بيته درهم، فكيف يطيق أن يتصرف في المال وهو عدوه.
وبعد: فإن أصحاب النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – نجوم الهدى، لكل نجم منهم موقعه وميدانه ومجاله، عرفهم رسولهم ومعلمهم وسير أغوارهم، فوضع كل امريء منهم موضعه، وأعطاه من الثناء ما يستحقه، وأسند إليه من الأعمال ما يطيقه ويجيده، وأوصاه بما ينفعه في دينه ودنياه.
وعلينا نحن المسلمين أن نتعلم منهم مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، كما تعلموا من خير معلم عرفته الإنسانية، وصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
وهذه الوصية أصل نرجع إليه في دفع الشبهات عن أنفسنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا تبرئة للدين والعرض، وصيانة للحرمات أن تُمس بسوء.
ونحن نعلم أن أكثر الشبهات تدور حول الأمراء وأصحاب المناصب، والمشرفين على الأموال، وبخاصة أموال اليتامى، فإنه يكثر فيهم القيل والقال، ولا يثبت الغرض على كثرة السهام – كما يقولون.
فالعاقل ينأى بنفسه عن مواطن السوء وإن غلب على ظنه أنه قادر على توقيه.
نسأل الله لنا ولكم السلامة والعافية.