البحث
الشبهة السابعة : السُّنَّة دونت في قصور الأمراء؟!
أعداء السُّنَّة ظهروا من قديم، وشغبوا حولها كثيراً ورددوا من الشبهات ما أملاه عليهم الشيطان، ليكونوا من أصحاب السعير، وعلى كثرة ما افتروا على سُّنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يتوسعوا في الشقاق مثل ما توسع فيه منكرو السُّنَّة المعاصرون.
فقد ملأوا صفحات الصحف الجديدة والقديمة صخباً وعويلاً وكرروا مراراً أن الحديث النبوي دون في قصور الخلفاء والأمراء، وخضع مدونوها إلى أهواء أولئك الخلفاء والأمراء، مُلاك الدنيا، الذين كانوا يملكون الرفع والخفض والجاه والسلطان، والدرهم والدينار؟
وأسهمت مجلة "روز اليوسف" خلال شهري مارس وإبريل من هذا العام (1999م) بنصيب وافر من نشر هذه الأكاذيب في أربع مقالات ضافية، مع شبهات أخرى مما نتعرض له في هذه المواجهة.
والهدف من هذه الشبهة (السادسة) واضح، هو تصوير السُّنَّة في صورة أكاذيب وافتراءات على صاحب الرسالة، وأن الأحاديث النبوية المتداولة الآن بين يدي الأمة في كتب الجوامع والمسانيد والصحاح وغيرها، لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها من اختراع أناس لا خلاق لهم وضعوها من أجل خدمة السلاطين والحكام، واشتروا بها ثمناً قليلاً؟!.
هذا هو هدفهم. وكفى بذلك للسنة ضياعاً؟
تفنيد هذه الشبهة ونقضها:
لن نطيل الوقوف أمام هذه الشبهة، لأنها من أكذب الأكاذيب، ونكتفي في الرد عليها بما يأتي:
أولاً: أن من له إلمام بالحديث النبوي وأغراضه التي قيل من أجلها، لن يعثر على حديث فيه محاباة للأمراء والحكام والسلاطين، بل سيجد فيها أحاديث تشدد النكير على تصرفات ولاة الأمور مهما علا سلطانهم في الأرض.
فهل لو كانت السُّنَّة دونت في قصور السلاطين تبعاً لأهوائهم كنا نجد فيها هذا الحديث:
"أفضل الجهاد كلمة، حق عند سلطان جائر" رواه أبو داود وابن ماجة عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً. ورواه غير أبي داود.
فمن هو السلطان الذي يسمح بتدوين هذا الحديث وأمثاله في قصره، ويمنح واضعه العطايا؟ أليس في الحديث تحريض وترغيب في التصدي للسلاطين والإنكار عليهم؟ وأنت ترى أن هذا الحديث يجعل مقاومة الظلمة من السلاطين أعلى مرتبة من مراتب الجهاد.
وهل لو كانت السُّنَّة قد دونت في قصور السلاطين تبعاً لأهوائهم كنا نجد فيها هذا الحديث:
"من بايع أميراً عن غير مشورة المسلمين فلا بيعة له ولا للذي بايعه" رواه الإمام أحمد.
إن هذا الحديث يسد منافذ كثيرة يمكن من خلالها أن يستبد الحكام بأمور المسلمين، فمن هو السلطان الذي يسمح بوضع هذا الحديث في قصره؟ ويمنح العطايا الجزيلة لمن يلف حبل المشنقة حول عنقه؟
إن هذين الحديثين، وغيرهما كثير، كافيان في تبرئة السُّنَّة من هذه الشبهة القاصمة.
ثانياً: إن علماء الحديث أنفسهم كانوا لا يقبلون حديثاً في سنده رجل عُرف بالتردد على السلاطين أو قبول هدايا منهم، أو كانت له خطوة عندهم وهذا منهم احتياط عظيم لحماية السُّنَّة من الدخيل والعليل والمكذوب.
ثم إنه تطبيق عملي لحديث يروى في هذا المعنى: "شرار العلماء الذين يغشون الأمراء، وخيار الأمراء الذين يغشون العلماء".
فكيف يصح مع هذا اتهام علماء الحديث بأنهم كتبوها في قصور الأمراء والسلاطين، استجابة لأهوائهم وشهواتهم.
إن علماء الأمة – بوجه عام – كانت علاقاتهم بالحكام والسلاطين قلقة، وكان العلماء يترفعون عن التردد على قصور الحكم وبلاط الرياسات، سواء كانوا فقهاء أو محدثين، وما كانوا يتهاونون في الثورة والاحتجاج على الباطل وإن اعتصم الباطل بالعروش والصولجانات الرهيبة ونكتفي بذكر واقعة واحدة هنا توخياً للإيجاز:
دخل الإمام الزهري المحدث على الوليد بن عبد الملك فقال له الوليد:
ما حديث يحدثنا به أهل الشام؟ قال الزهري: وما هو يا أمير المؤمنين؟
قال: يحدثوننا أن الله إذا استرعى عبداً رعية – أي جعله حاكماً – كتب له الحسنات، ولم يكتب عليه السيئات.
قال الزهري: باطل يا أمير المؤمنين، أنبي خليفة أكرم على الله، أم خليفة غير نبي؟
قال الوليد: بل نبي خليفة أكرم على الله من خليفة غير نبي.
قال الزهري: فإن الله تعالى يقول لنبيه داود عليه السلام:
{ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } (سورة ص: 26).
فهذا وعيد يا أمير المؤمنين لنبي خليفة، فما ظنك بخليفة غير نبي.
قال الوليد: إن الناس ليغووننا عن ديننا. [العقد الفريد: جـ1 ص 60].
انظر شجاعة الزهري وجرأته على دحر الباطل ونصرة الحق. وهذه الواقعة جرت أحداثها في قصر الوليد بن عبد الملك حاكم زمانه، والزهري من أعلام علماء الحديث وموقفه هذا هو المنهج الذي سار عليه رجال الحديث الأتقياء البررة، فأين الزور الذي يروج له منكرو السُّنَّة في زماننا هذا من هذا الحق، الذي زين الله به خدام سنة رسوله الكريم.
ومن شاء المزيد من هذه "البطولات" فليقرأ سيرة الأئمة الأربعة، أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل، ليرى مواقفهم الناصعة أمام حكام عصورهم، وتشددهم في إقرار الحق ودفع الباطل، والاعتزاز بكرامة الإيمان والعلم.
- · فأبوا حنيفة تؤدي به الجفوة بينه وبين الحكام إلى الزج في غياهب السجون المظلمة الظالمة، ويلقى منيته وهو مسجون كما في بعض الروايات.
- ومالك لما خالف هوى حكام عصره آذوه وخلعوا ذراعه وأصابوه بالأمراض.
- والشافعي يضيق به الأمراء ذرعاً ويطاردونه من قطر إلى قطر، دون أن ينيلهم ما يرجون.
- · وأحمد يقف كالطود العظيم شامخاً بإيمانه وعلمه ويحل به العذاب الظالم حتى يفقد وعيه، ولا ينحرف قيد أنملة نحو الباطل الذي كانوا يراودونه عليه.
هذه قبسات مضيئة سجلها التاريخ بأحرف من نور للفقهاء والمحدثين، الذين يتطاول عليهم الآن شرذمة لا خلاق لهم من بنى جلدتنا، ويتكلمون بلساننا، ويلبسون للناس جلود الضأن من اللين، وقلوبهم قلوب الذئاب، إنهم جنود إبليس وإن صلوا وصاموا وزعموا أنهم مسلمون. والله لهم بالمرصاد، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
* * *