البحث
دلائل النبوة الجزء الخامس
النوع العاشر من دلائل نبوته ﷺ هو القرآن الكريم ، وهو المعجزة الخالدة المستمرة من حين أنزِل إلى يوم القيامة ، فإن آيات الأنبياء قاطبة انقضت بموتهم ، ولم يبق لهم معجزة إلا ما حكاه أتباعهم عنهم مما شوهد في زمانهم ، أما القرآن فمعجزة خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: ما مِن الأنبياء من نبي إلا قد أُعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أُوتيت وحيا أوحى الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة [1].
قال شمس الدين الذهبي رحمه الله:
هذه هي المعجزة العظمى ، وهي القرآن ، فإن النبي من الأنبياء عليهم السلام كان يأتي بالآية وتنقضي بموته ، فقَلَّ لذلك من يتَّــــبِعه ، وكَــثُــرَ أتباع نبينا ﷺ لكون معجزته الكبرى باقية بعده ، فيؤمن بالله ورسوله كثيرٌ مِـمَّـن يسمع القرآن على مر الأزمان ، ولهذا قال: فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة. انتهى [2].
وقال ابن كثير رحمه الله:
والمعنى أن كل نبي قد أوتي من خوارق العادات ما يقتضي إيمان من رأى ذلك من أولي البصائر والنهى ، لا من أهل العناد والشقاء ، وإنما كان الذي أوتِــــــيه – أي جُــلُّهُ وأعظمُهُ وأبهرُه – القرآن الذي أوحاه الله إليه ، فإنه لا يبيد ولا يذهب كما ذهبت معجزات الأنبياء وانقضت بانقضاء أيامهم فلا تُشاهد ، بل يخبر عنها بالتواتر والآحاد ، بخلاف القرآن العظيم الذي أوحاه الله إليه فإنه معجزة متواترة عنه ، مستمرة دائمة البقاء بعده ، مسموعة لكل من ألقى السمع وهو شهيد [3].
قال مقيده عفا الله عنه: القرآن الكريم مُعجِــزٌ في ذاته من تسعة وجوه [4]:
الأول: بيانه وفصاحته ، فالقرآن الكريم نزل على العرب بلغتهم ، وفي زمان بلغوا فيه الذَّرْوَةَ في الفصاحة والبلاغة والبيان وحسن نظم الشعر ، فظنوا في أول الأمر أنهم يستطيعون الإتيان بمثله فقالو
ا ﴿لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين﴾ [5] ،
فنزل القرآن بتحديهم على ثلاثة مراحل ؛ الأولى أن يأتوا بمثله [6]، والثانية أن يأتوا بعشر سور مثله [7]، والثالثة أن يأتوا بسورة مثله [8]، فعجِزوا مع شدة حرصهم على مغالبة القرآن وقوة فصاحتهم ، فقطع الله طمعهم إلى قيام الساعة في قوله تعالى ﴿قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا﴾[9].[10]
وقال ابن تيمية رحمه الله:
والقرآن آيته باقية على طول الزمان من حين جاء به الرسول ، تُتلى آيات التحدي به ويتلى قوله ]فليأتوا بحديثٍ مثله إن كانوا صادقين[ و ]فأتوا بعشر سورٍ مثله[ و ]بسورةٍ مثله وادعوا من استطعتم من دون الله[ ، ويُتلى قوله ]قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً[ ، فنفس إخبار الرسول بهذا في أول الأمر [11] وقطعِه
بذلك مع علمه بكثرة الخلق دليل على أنه كان خارقاً يُعجز الثقلين عن معارضته ، وهذا لا يكون لغير الأنبياء.
ثم مع طول الزمان قد سـمِعه الموافق والمخالِف ، والعرب والعجم ، وليس في الأمم من أظهرَ كتاباً يقرأه الناس وقال إنه مثله ، وهذا يعرفه كل أحد ، وما من كلام تكلم به الناس - وإن كان في أعلى طبقات الكلام لفظاً ومعنى - إلا وقد قال الناس نظيرَه وما يشبهه ويقاربه ، سواء كان شعراً أو خطابة أو كلاماً في العلوم والحكم والاستدلال والوعظ والرسائل وغير ذلك ، وما وُجِد من ذلك شيء إلا وَوُجِد ما يُشبهه ويُقاربه.
والقرآن مـما يَعلم الناس عربهم وعجمهم أنه لم يوجد له نظير مع حرص العرب وغير العرب على معارضته ، فلفظُه آية ، ونظمُه آية ، وإخبارُه بالغيوب آية ، وأمرُه ونهيُه آية ، ووعدُه ووعيدُه آية ، وجلالتُه وعظمتُه وسلطانُه على القلوب آية ، وإذا تُرجم بغير العربي كانت معانيه آية ، كل ذلك لا يوجد له نظير في العالم [12].
فائدة – التوراة والإنجيل لا يُجزم بأنها معجزة في لفظِها
لا يُجزم بأن التوراة والإنجيل مُعجزة من حيث اللفظ والنظم كالقرآن ، فهذا يرجع إلى اللغة التي أنزِل بها وهي العبرانية ، وإنما هي مُعجزة لما تضمنته من الـمعاني ، كالإخبار عن الغيوب ، وما فيها من الهدى والنور ، وما فيها من الإخبار بنبوة محمد ﷺ [13].
ثانيا: أنه ليس فيه عوج لا من جهة الألفاظ ولا من جهة المعاني ، قال الشنقيطي رحمه الله في تعليق له على
قوله تعالى:
}الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً{
أي: لم يجعل فيه اعوجاجاً كائناً ما كان ، لا من جهة الألفاظ ولا من جهة المعاني ، فألفاظه في غاية الإعجاز والسلامة من العيوب والوصمات ، ومعانيه كلها في غاية الكمال ، أخباره صدق ، وأحكامه عدل }وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً{ أي: صدقاً في الأخبار ، وعدلاً في الأحكام [14].
ثالثا: حِفظه من التحريف على مر العصور والدهور ، ووجه الإعجاز أنه لم يُـحفظ كتابٌ من الكتب السماوية كما حُـفِظَ هذا الكتاب ، وصدق الله ﴿إنا نحن نـزلنا الذِّكر وإنا له لحافظون﴾[15].
رابعا: حُسْنُ ما تضمنه القرآن من تشريعات وأحكام ، تصلح لجميع البشر ولجميع الأزمنة والأمكنة، وتشمل جميع ما يصلح العباد في دنياهم وآخرتـهم ، في العقيدة والشريعة والآداب والاقتصاد والسياسة وغيرها ، وجعله مستغنٍ عن غيره من القوانين والدساتير.
خامسا: صِدقُ الأخبار التي تضمنها ، سواء التي مضت ، أو التي تحصل تَـبَـعًا مع مرور الزمن أثناء تَـنَـزُّل القرآن ، أو الآيات التي فيها ذكر بعض الأمور المستقبلية ، فأما الأخبار التي مضت فهي كالإخبار عن خلق السماوات والأرض ، وقصة آدم وإبليس ، ثم قصص الأنبياء السابقين مع أقوامهم ، وقصة صاحب الجنتين ، وقصة أصحاب الكهف وذي القرنين ، وغيرها ، جاءت كل هذه الأخبار على لسان نبي أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة.
وتَضَـمَّن القرآن كذلك ذكر بعض الأحكام الواردة في التوراة ، وبيان كتمان أحبار اليهود لها ، حتى تحداهم القرآن
بقوله
)قل فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين( [16].
وأما الآيات التي نـزلت تَـبَعًا مع التنـزيل فكالآيات التي نـزلت لكشف أحوال المنافقين ، والآيات التي فيها إجابة على أسئلة ، كالآيات التي تَصَدَّرها قولُه )ويسألونك( ونحوها ، وكذا المواقف التي كشفت عن صدق الله وعدِه لنبيِّــــه بالنصر في الحروب ، وغير ذلك.
وأما الآيات التي فيها أخبار ما سيأتي في المستقبل فوقعت مطابقة لـما أخبر فكدخول الــــمسجد الحرام ، وهي في آخر سورة الفتح.
وأيضا قوله تعالى )سيهزم الجمع ويولون الدبر[17]( ، فقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم أن عمر لما نـزلت هذه الآية قال: أيُّ جمعٍ يُهزم؟
فلما كان يوم بدر رأيت النبي ﷺ يَـــثِــبُ في الدِّرع ويقول: )سيهزم الجمع ويولون الدبر(.
وفي رواية لابن أبي حاتم: فعرفتُ تأويلها يومئذ.
وكذلك الآيات التي فيها تقرير عجز الناس عن أن يأتوا بآية مثل آيات القرآن ، فعجز الناس فعلا ، وكالآيات التي تقرر حفظ الله لكتابه ،
كقوله تعالى
)إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون(
، فوقع الأمر كما أخبر ، فكم من ملحدٍ حاول ثم نكص على عقبيه ، وكالآيات التي تقرر حصول العزة والكرامة والسيادة والظهور للأمة الإسلامية إن استقامت على أمر الله ، فوقع الأمر كما أخبر الله في القرون الثلاثة المفضلة الأولى ، قال تعالى )وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ولَيُمكِّــــننَّ لهم دينهم الذين ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا([18] ، ثم لما فشا فيهم الشرك والبدع ، والبعد عن منهج السلف الصالح في العقيدة والشريعة والسلوك ؛ صاروا في ذيل الأمم ، وتسلطت عليهم الأمم الأخرى ، واحتلوا بلادهم قرونا من الزمن [19].
ومن دلائل صدق القرآن ما جاء فيه من ذكر بعض الأمور العلمية ، ثم لما ظهرت الاكتشافات العلمية الحديثة وقعت مطابقة لما أخبر ، فمراحل تكوين الإنسان في بطن أمه – مثلا – قد تحدث عنه القرآن قبل أربعة عشر قرنا ، بينما لم يَهتدِ علماءُ الطب إلى مراحل ذلك التكوين إلا في العقود المتأخرة من هذا الزمان.
وبيان ذلك أن القرآن الكريم بين أن حياة الإنسان تمر بأربعة مراحل ، فقال تعالى في مطلع سورة المؤمنون:
)ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين * ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون(.
فالمرحلة الأولى هي أصل الخلقة ، لما خلق الله أبانا آدم عليه السلام من طين ، وفي هذا يقول الله تعالى )ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين(.
المرحلة الثانية هي مرحلة تكون الإنسان في بطن أمه ، وقد أشار القرآن الكريم إلى المراحل التدريجية لتكون الإنسان في بطن أمه ، وهي خمسة مراحل ؛ نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظام ثم لحم فوق العظام.
فقوله: (خلقنا النطفة علقة) أي دمًا أحمر.
وبعد أربعين يومًا تتحول العلقة إلى مضغة ، أي قطعة لحم قَدْر المضغة التي يمضغها الإنسان في فمه.
ثم تتحول المضغة اللينة وتتحول خلقتها إلى عظام.
ثم تُكسى العظام لحمًا ، ثم ينشئه الله خلقًا آخر بنفخ الروح فيه.
فتبارك الله الذي أحسن كل شيء خلقه.
والشاهد من هذا السَّرد لمراحل خلق الإنسان أن علم الطب الجديد اكتشف هذه المراحل كلها ، ثم تفاجأ بأنه هذه المراحل مذكورة في القرآن منذ أربعة عشر قرنا ، فاستـــــــدلوا من هذا على أن القرآن كلام الله ، لا يمكن أن يكون الذي أتى به بشر ، فسبحان من بهر بحكمته العقول.
وكذا الأمر بالنسبة لتكوين البحار والجبال وغيرها ، فقد جاء ذكر تكوينها الطبيعي في القرآن ، وبعد ظهور المكتشفات الحديثة وقعت مطابقة لما أخبر به.
وقد أُلِّـــفَت في مطابقة الاكتشافات العلمية لما جاء به القرآن مؤلفات كثيرة ، وأسلم بسبب هذا التطابق عددٌ ليس بالقليل من علماء الطبيعة ، ومن أراد التوسع في ذلك فليرجع إلى مطبوعات هيئة الإعجاز العلمي التابعة لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة.
سادسا: ومن دلائل إعجاز القرآن تنوُّع العلوم التي احتواها ، فعلاوة على أن القرآن الكريم قد قرر العقيدة الصحيحة فيما يتعلق بصفات الله تعالى وأحقيته بالعبادة ، وهَدَمَ أساطير الخرافة والتعلق بالمخلوقات ؛ فإنه لم يقتصر على هذا ، فقد اغترف منه علماء النحو والبلاغة واللغة الشيء الكثير، بل هو المعيار الأساس لضبط علومِهم.
فتنوُّع العلوم هذه كلها تدل على أن النبي ﷺ صادق فيما يُـبَـلِّــــغُه عن ربه ، فإنه من المستقر المعلوم عند قومه أنه أُمِّيٌّ ، لا يقرأ ولا يكتب ، فمن أين سيأتي بكل هذه الأخبار القرآنية لولا أنه يُوحى إليه من ربه؟ قال تعالى ﴿وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون * بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بها إلا المبطلون﴾ [20].
سابعا: ومن وجوه إعجاز القرآن تأثيره البليغ في النفوس ، سواء كانت نفوسا مؤمنة أو كافرة ، وصدق الله )لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله [21]( ، وقوله )الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله( [22].
وقد تأثر بالقرآن بعض صناديد الكفر من قريش ، ومن ذلك قصة الوليد بن المغيرة لما سمع القرآن ، فقد روى ابن جرير في «تفسيره» [23]والحاكم في «مستدركه» [24]واللفظ له عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الوليد بن الـمغيرة جاء إلى النبي ﷺ فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رقَّ له ، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عمْ ، إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا.
قال: لِـمَ؟
قال: لِـــيعطوكَهُ ، فإنك أتيت محمدا لتَعرِض لما قِبَلَه [25].
قال: قد علِمَت قريش أني من أكثرها مالا.
قال: فقُل فيه قولا يبلُغ قومك أنك منكرٌ له ، أو أنك كارهٌ له.
قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعـلم بالأشعار مني ، ولا أعلم برَجزٍ ولا بقصيدةٍ مني ، ولا بأشعار الــجن ، والله ما يُشـــــــــــــبه الذي يقول شيئا من هذا ، ووالله إن لِقوله الذي يقول حـــــــــــــلاوة ، وإن عليه لطُـلاوة [26] ، وأنه لمثمرٌ أعلاه ، مُغدِقٌ [27] أسفله ، وإنه ليعلو وما يُعلى ، وإنه لَــيَــحْطِمُ ما تحته.
قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.
قال: فدعْني حتى أفكر.
فلما فكَّـر قال: هذا سحر يؤثر ، يأثِره عن غيره [28]، فنـزلت )ذرني ومن خلقت وحيدا([29].
وأخرج ابن إسحاق في السيرة [30] والبيهقي في «الدلائل» [31]واللفظ له عن الزهري قال: حُدِّثتُ أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شُريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله ﷺ وهو يصلي بالليل في بيته ، وأخذ كل رجل منهم مجلسا ليستمع فيه ، وكُــــــلٌّ لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتُوا يستمعون له ، حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر تفرَّقوا ، فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: (لا تعـودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا) ، ثم انصرفوا ، حتى إذا كان الليلة الثانية عاد كل رجــل منهم إلى مـــجلــسه ، فباتوا يســتمعون له حتى إذا طلـع الفـجر تفـرَّقوا ، فجمعــــــتهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ، ثم انصرفوا ، فلما كانت الليلة الثالثة أخذ كل
رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلـع الفجر تفرقوا ، فجمعتهم الطريق ، فقالوا: (لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود) ، فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا ، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد.
فقال: يا أبا ثعلبة ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها.
قال الأخنس: وأنا ، والذي حلفتَ به.
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فقال: يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟
قال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف في الشرف ، أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفَرَسَيْ رِهان ؛ قالوا: (منا نبي يأتيه الوحي من السماء!) ، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه ، فقام عنه الأخنس بن شريق. انتهى.
ولما سمع جبير بن مطعم رضي الله عنه رسول الله ﷺ يقرأ سورة الطور فبلغ هذه الآيات
﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ[32]﴾
، وكان جبير يومئذ مشركًا ؛ قال : كاد قلبي أن يطير ، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي [33].
ولما كان القرآن يتصف بهذا التأثير البليغ في النفوس ؛ تعاهد الكفار ألا يستمعوا للقرآن ، كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله )وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون [34]( ، وما ذاك إلا لتأثيره في نفوسِـهم ، وإحساسهم به في أعماقهم ، ولكنهم قوم يستكبرون عن سماع الحق.
وقد أثّـر القرآن في بعض النصارى فآمنوا به ، قال تعالى عنهم )وإذا سمعوا ما أُنـــــــزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبا مع الشاهدين([35].
أما المؤمنون فتأثير القرآن فيهم واضح ، قال تعالى )إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا [36]( ، والكلام في هذا يـطول ، وهو موجود في مظانِّه ، ويكفي في هذا ما ذكره جلال الدين السيوطي رحمه الله في كتابه «الإتقان في علوم القرآن» [37]أن جماعةً ماتوا عند سماع آيات من كتاب الله ، وقد أفرَدَ أسمائهم في مصنف.
ثامنا: ومن وجوه إعجاز القرآن الكريم كونه شفاء من الأمراض الحسية والمعنوية (أي النفسية) ، فأما الأمراض الحسية فقد حذر القرآن من جملة من المطعومات والمشروبات والسلوكيات على سبيل الوقاية من الأمراض ، ومن ذلك تحريم شرب الخمر وأكل لحم الخنـزير ، وارتكاب الزنا واللواط ، وكذا إتيان النساء في فترة المحيض.
[38]وأما إذا أُصِيب الإنسان بمرض فقد أرشد النبي ﷺ إلى التداوي بقراءة سورة الفاتحة ، كما أرشد القرآن إلى التداوي بالعسل ، )فيه شفاء للناس(.
وأما الأمراض النفسية فالقرآن هو أفضل الأدوية لها ، بل إن سبب هذه الأمراض هو البعد عن القرآن ، )ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا[39]( ، ومن تلك الأمراض القلق والاكتئاب والسحر والأخلاق الرديئة من طمع وكبر والانجراف وراء الشهوات وغير ذلك ، وذلك أن هذه الأمراض تحصل نتيجة الخواء الروحي ، وليس للخواء الروحي دواء إلا الرجوع إلى الله تعالى ، وصدق الله )ألا بذكر الله تطمئن القلوب[40]( ، )وننـزل من القرآن ما هو شـفاء ورحـمة للمؤمنين[41]( ، )قد
جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين[42]( ، )قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء([43].
وقد شفى الله بقراءة القرآن الألوفَ الـمؤلفة ممن أصيبوا بالأمراض العضوية والنفســية على مرِّ العصور، ولا يزال هذا يُشاهدُ ويُـمارسُ ، بل قد صار الاستشفاء بالقرآن مُقرَّرا في بعض العيادات النفسية.
تاسعا: ومن وجوه إعجاز القرآن يُــسرُ حفظِه عن ظهر قلب لمن أراد ذلك ، خلافا لغيره من الكتب، فقد حُفِظ القرآن كاملا في صدور الملايين من الناس منذ عصر النبوة إلى يومنا هذا ، ومِـمَّن حفظه من هو من الـمكفوفين ، ومنهم من هو من الأعاجم الذين يتكلمون اللغة العربية إلا قليلا ، فسبحان من بهر بكتابه العقول ، وسيستمر حفظه في صدور الناس إلى نهاية الدنيا.
وهذا الوجه من وجوه الإعجاز لم – ولن - يحصل لغيره من الكتب إطلاقا.
المراجع
- رواه البخاري (4981) ومسلم (152) ، واللفظ لمسلم.
- «سير أعلام النبلاء» ، قسم السيرة النبوية ، (27/351) ، باب جامع في دلائل النبوة ، الناشر: مؤسسة الرسالة – بيروت.
- «البداية والنهاية» (6/381) ، كتاب دلائل النبوة ، باب التنبيه على ذكر معجزات لرسول الله مماثلة لمعجزات جماعة من الأنبياء.
- قولي إنها تسعة ليس على سبيل التحديد ، ولكن بحسب ما يسر الله الوقوف عليه ، وربما كانت هناك وجوه أخرى ، فالله تعالى أعلم ، وانظر للاطلاع وجوه إعجاز القرآن الكريم العشرة كما ذكرها القرطبي رحمه الله في مقدمة كتابه «الجامع لأحكام القرآن» ، باب: ذكر نكت في إعجاز القرآن ، وشرائط المعجزة وحقيقتها.
- سورة الأنفال: 31 .
- سورة الطور: 33 – 34 .
- سورة هود: 13 .
- سورة البقرة: 23 .
- سورة الإسراء: 88 .
- وانظر أيضا ما قاله الشنقيطي رحمه الله في تفسير قوله تعالى ﴿وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين﴾ (سورة يونس: 37).
- أي في أول أمر نبوته.
- كتاب «النبوات» ، ص 515 - 517 .
- انظر كتاب «النبوات» (519).
- «الرحلة إلى أفريقيا» ، ص 18 .
- سورة الحجر: 9 .
- سورة آل عمران: 93 .
- سورة القمر: 45 .
- سورة النور: 55 .
- تعمدت هنا ذكر جملة (واحتلوا بلادهم قرونا) بدل (واستعمروا بلادهم قرونا) ، والفضل في هذا الاختيار يعود للعلامة السلفي محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله ، فقد انتقد كلمة (الاستعمار) ، فقال ما معناه إن مادة هذه الكلمة هي (العـــــــمارة) ، ومن مشتقاتـــــــها التعمير والعمران ، كما قال الله تعالى ﴿هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها﴾ ، والذي وقع من الإفرنج في تلك الحقبة الزمنية هو الخراب لا العمران ، فإنهم خرّبوا الأوطان والأديان والعقول والأفكار والمقومات ، وتركوا آثارا وبصمات سيئة بعد انسحابهم من البلاد التي احتلوا وهيمنوا عليها ، ومع الأسف فالمصطلح المستعمل بين المسلمين بعد انسحابهم وإلى الآن هو الاستعمار ، وهذا خطأ لفظي واضح.
انظر «آثار الإبراهيمي» (3/506 - 507). - سورة العنكبوت: 48 – 49 .
- سورة الحشر: 21 .
- سورة الزمر: 23 .
- تفسير سورة المدثر ، الآيات 18 – 25 .
- (2/507).
- أي لتعرض نفسك لما عنده من مال ، يريدون أنه طمِع بما عنده ، فلهذا ذهب إليه.
- أي رونقا وحسنا ، وقد تفتح الطاء. انظر «النهاية».
- الغدَق هو الماء الكثير ، وفي التنزيل )لأسقيناهم ماء غدقا( ، والمقصود بالـــمُغدق في الكلام هنا هو كثرة خيره. انظر «لسان العرب».
- أي يرويه عن غيره.
- سورة المدثر: 11 .
- كتاب «السيرة» ، ص (169) ، تحقيق محمد حميد الله.
- باب جماع أبواب المبعث (2/206).
- سورة الطور: 35 - 37 .
- رواه البخاري مفرقا ، (4853 ، 4023).
- سورة فصلت: 26 .
- سورة المائدة: 83 .
- سورة الأنفال: 2 .
- باب: النوع الرابع والستون في إعجاز القرآن.
- سورة النحل: 69 .
- سورة طـٰه: 124 .
- سورة الرعد: 28 .
- سورة الإسراء: 82 .
- سورة يونس: 57 .
- سورة فصلت: 44 .