البحث
الحق الحادي عشر: توقيره ﷺ
جاءت الأدلة في الكتاب والسنة على وجوب توقير النبي ﷺ ، ومن ذلك
قوله تعالى
[لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه]
[1]
، وقال تعالى
[فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه وأتبعوا النور الذي أنـزل معه أولئك هم المفلحون]
[2].
قال ابن تيمية: فالإيمان بالله والرسول ، والتعزير والتوقير للرسول ، والتسبيح بكرة وأصيلا لله وحده[3].
قال ابن جرير رحمه الله: معنى التعزير في هذا الموضع: التقوية بالنصرة والمعونة ، ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والتعظيم والإجلال[4].
وقال شيخ الإسلام: التعزير ؛ اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه[5].
وقال ابن جرير الطبري: فأما التوقير فهو التعظيم والإجلال والتفخيم[6].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «التوقير» اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام ، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار[7].
ومن دلائل توقير الله تعالى لنبيه ﷺ ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (أنه خصه في المخاطبة بما يليق به ،
فقال
[لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا]
، فنهى أن يقولوا: يا محمد أو يا أحمد أو يا أبا القاسم ، ولكن يقولون: يا رسول الله ، يا نبي الله.
وكيف لا يخاطبونه بذلك ، والله سبحانه وتعالى أكرمه في مخاطبته إياه بما لم يكرم به أحداً من الأنبياء ، فلم يدعه باسمه في القرآن قط
، بل يقول
[يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها]
، [يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين]
، [يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك]
، [يا أيها النبي اتق الله]
، [يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً]
، [يا أيها النبي إذا طلقتم النساء]
، [يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك]
،
[يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك]
، [يا أيها المزمل * قم الليل]
،[يا أيها المدثر * قم فأنذر]
، [يا أيها النبي حسبك الله].
مع أنه سبحانه
قال
[وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك ] الآية ،
[يا آدم أنبئهم بأسمائهم]
،
[يا نوح إنه ليس من أهلــك]
،
[يا إبراهيم أعرض عن هذا]
،[يا موسى إني اصطفيتك على الناس]
، [يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض]
، [يا يحيى خذ الكتاب بقوة]
،
[يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس]
،[يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك]
). انتهى.
ومن دلائل توقير الله لنبيه ﷺ تحريم نكاح أزواجه من بعده أبدا ،
كما قال تعالى
[وما كان لكم أن تؤذوا رسـول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما].
وتعظيم النبي ﷺ وتوقيره يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح ، فأما تعظيم القلب فيكون باستشعاره لهيبة النبي ﷺ وجلالَة قدْره وعظـيم شأنه ، واستحضاره لمحاسنه ومكانته ومنـزلته ، والمعاني الجالبة لحبه وإجلاله وكل ما من شأنه أن يجعل القلب ذاكراً لحقه من التوقير والتعزير ، ومعترفاً به ومذعناً له.
فالقلب مَلِك الأعضاء ، وهي له جند وتبع ، فمتى ما كان تعظيم النبي ﷺ مستقراً في القلب مسطورًا فيه على تعاقب الأحوال ؛ فإن آثار ذلك ستظهر على الجوارح حتماً لا محالة ، وحينئذ سترى اللسان يجري بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه ، وترى باقي الجوارح متبعة لشرعه وأوامره ، ومؤدية لما له من الحق والتكريم.
وأما تعظيم اللسان للنبي ﷺ فيكون بالثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به عليه ربه وأثنى على نفسه من غير غلو ولا تقصير ، ومن أعظم ذلك الصلاة والسلام عليه ﷺ ، فقد أمر الله
عباده المؤمنين بأن يصلوا على النبي ﷺ ،
فقال تعالى
[إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً].
ومن تعظيم اللسان كذلك أن نتأدب عند ذكره بألسنتنا ، وذلك بأن نقرن ذِكر اسمه بلفظ النبوة أو الرسالة ، مع الصلاة والسلام عليه ﷺ .
ومن تعظيم اللسان ؛ تعداد فضائله وخصائصه ومعجزاته ودلائل نبوته ، وتعريف الناس بسنته وتعليمهم إياها ، وتذكيرهم بمكانته ومنـزلته وحقوقه ، وذكر صفائه وأخلاقه وخِلاله ، وما كان من أمر دعوته وسيرته وغزواته ، والتمدح بذلك شعراً ونثراً ، بشرط أن يكون ذلك في حدود ما أمر به الشارع الكريم ، مع الابتعاد عن مظاهر الغلو والإطراء المحظور.
وقد ضرب الصحابة رضوان الله عليهم أروع الأمثلة في توقير النبي ﷺ وتعظيمه، فلم يكن من عادة الصحابة رضوان الله عليهم أن يتجادلوا في مجلس النبي ﷺ أو يرفعوا أصواتهم بنقاش أو حوار ،
عملا بقول الله تعالى
[لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون]
[8]
، بل يعطون لهذا المجلس حقه من التشريف والاحترام.
وفي الآية دليل على أن سوء الأدب مع النبي ﷺ من الذنوب التي توجب حبوط العمل.
وعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: كنا إذا قعدنا عند رسول الله ﷺ لم نرفع رؤوسنا إليه إعظاماً له[9].
ولما بعثت قريش أبا سفيان إلى رسول الله ﷺ وقدم المدينة ؛ دخل على ابنته أم حبيبة ، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله ﷺ طوته دونه ، فقال: يا بُـــنيَّـــة ، أرغِـــبتِ [10]بهذا الفراش عني أم بي عنه؟
فقالت: بل هو فراش رسول الله ﷺ ، وأنت امرؤ نجس مشرك[11].
فأكرمت أم حبيبة فراش رسول الله ﷺ أن يجلس عليه أبوها ، فهل بعد هذا التوقير من توقير؟
وعن أسـامة بن شريك قال
: أتيت رسول الله ﷺ فإذا أصحابه عنده كأن على رؤوسهم الطير ، الحديث
[12].
فهذه العبارة هي كناية عن التعظيم الذي كانوا يظهرونه في مجلس الرسول ﷺ توقيراً وإجلالاً له صلوات الله وسلامه عليه.
ومن هذا ما رآه عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه لما أتى للتفاوض مع النبي ﷺ في صلح الحديبية ، وكان إذ ذاك مشركاً ، فرأى من تعظيم الصحابة ما هاله ، فقال عندما رجع إلى قريش: أيْ قومِ ، والله لقد وفدت على الملوك ، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله إن رأيت ملِكاً[13] قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يُـحِدُّون النظر إليه تعظيماً له[14].
المراجع
- سورة الفتح: 9 .
- سورة الأعراف: 157 .
- «مجموع الفتاوى» (1/307) ، باختصار يسير.
- «تفسير الطبري» ، سورة الفتح ، آية 9 .
- «الصارم المسلول» (3/803).
- «تفسير الطبري» ، سورة الفتح ، آية 9 .
- «الصارم المسلول» (3/803).
- سورة الحجرات: 2 .
- رواه الحاكم (1/121) ، والبيهقي في «المدخل إلى السنن الكبرى» (658).
- أي هل فضلتيه عليَّ؟
- رواه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» ، ذكر أزواج رسول الله ﷺ (8/292) ، والبيهقي في «الدلائل» (5/8).
- رواه النسائي في «الكبرى» (7553) ، وأبو داود (3855) ، والبيهقي في «الشعب» (2/200) ، واللفظ للنسائي ، وصححه الألباني رحمه الله.
- أي: ما رأيت ملِكا ...
- رواه البخاري (2731 ، 2732).