البحث
الحق الخامس عشر: توقير صحابته ﷺ الجزء الأول
الصحابي هو من لقي النبي ﷺ وهو حي ورآه وهو مؤمن ومات على ذلك ، ولو لم يجالسه أو لم يره بعينه لعمى في بصره.
ومن حقوق النبي ﷺ ، ودلائل توقيره وبِـرِّه ؛ توقير أصحابه وبِـرِّهم ومعرفة حقهم والاقتداء بهم ، وحسن الثناء عليهم ، والاستغفار لهم ، والإمساك عما شجر بينهم ، ومعاداة من عاداهم ، والإعراض عن الأخبار القادحة في أحد منهم ، والتي نقلها بعض المؤرخين ، وجهلة الرواة ، وضلال الشيعة والمبتدعين ، وأن نلتمس لهم فيما نقل عنهم فيما كان بنيهم من الفتن أحسن التأويلات ، ويُـخَرَّج لهم أصوب المخارج ، إذْ هم أهلٌ لذلك ، ولا يُذكر أحد منهم بسوء ولا يُعاب عليه أمر ، بل تُذكر حسناتهم وفضائلهم ، وحمِيد سيرتهم ، ويُسكت عما وراء ذلك[1].
وقال أبو جعفر الطحاوي في عقيدته المسماة بـ «العقيدة الطحاوية»: ونـحب أصحاب رسول الله ﷺ ، ولا نُفرِط في حب أحد منهم ، ولا نتبرأ من أحد منهم ، ونبغض من يبغضهم ، وبغير الخير يذكرهم ، ولا نذكرهم إلا بخير ، وحبهم دين وإيمان وإحسان ، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان. انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله ﷺ ، كما وصفهم الله في
قوله تعالى
{والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم}
[2].[3]
والصحابة كلهم عدول بتعديل الله لهم ، وثنائه عليهم ، وثناء رسوله ﷺ عليهم ، قال ابن عبد البر: الصحابة كلهم عدول مرضيون ثقات أثبات ، وهذا أمر مجتمع عليه عند أهل العلم بالحديث[4].
قال النووي في «التقريب»: الصحابة كلهم عدول ، مَن لابس الفتن وغيرهم ، بإجماع من يُعتد به[5].
وقال الخطيب البغـدادي [6]رحمه الله: عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم ، وإخباره عن طهارتهم ، واختياره لهم في نص القرآن ، فمن ذلك
قوله تعالى
[كنتم خير أمة أخرجت للناس]
[7]
، وقوله تعالى
[وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً].
[8]
وهذا اللفظ وإن كان عاماً ؛ فالمراد به الخاص.
وقيل هو وارد في الصحابة دون غيرهم.
ثم قال بعد ذكر عدة آيات وأحاديث في فضل الصحابة:
وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة ، والقطع على تعديلهم ونـزاهتهم ، فلا يَحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى لهم ، المطلع على بواطنهم ، إلى تعديل أحد من الخلق له.
ثم قال: على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل الـمُهَج[9] والأموال وقتل الآباء والأولاد ، والـمناصحة في الدين ، وقوة الإيمان واليقين ، القطع على عدالتهم والاعتقاد لنـزاهتهم ، وأنهم أفضل من جميع الـمُعَـدّلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين.
هذا مذهب كافة العلماء ومن يُعتد بقوله من الفقهاء[10]. انتهى.
بمَ فَضُلَ الصحابة
فضُل الصحابة على غيرهم من الناس بأن الله اختارهم من بين سائر البشر بصحبة نبيه ﷺ ، وخصهم في الحياة الدنيا بالنظر إلى النبي ﷺ وسماع حديثه من فمه الشريف ، وتلقي الشريعة وأمور الدين عنه ، وتبليغ ما بعث به رسول الله ﷺ من النور والهدى على أكمل الوجوه وأتمها ، فكان لهم الأجر العظيم لصحبتهم رسول الله ﷺ والجهاد معه في سبيل الله ، وأعمالهم الجليلة في نشر الإسلام والدعوة إليه ، ولهم من الأجر مثل أجور من بعدهم ، لأنهم الواسطة بينهم وبين رسول الله ﷺ ، ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً.
ثم إن الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وقرة الإيمان واليقين ؛ أوجبت هذه الحال القطع على عدالتهم ، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون بعدهم ، أبد الآبدين.
وأعظم من هذا كله أن الله أثنى عليهم أحسن الثناء ، ورفع ذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن ، ووعدهم المغفرة والأجر العظيم ،
فقال تعالى
[محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً]
[11].
قال ابن جرير رحمه الله في تفسير
قوله تعالى
[سيماهم في وجوههم من أثر السجود]:
سيماهم الذي كانوا يعرفون به في الدنيا أثر الإسلام ، وذلك خشوعه وهديه وزهده وسمته ، وآثار أداء فرائضه وتطوعه ، وفي الآخرة ما أخبر أنهم يعرفون به ، وذلك الغُــــرَّة في الوجه ، والــــــتَّحجيل في الأيدي والأرجل من أثر الوضوء ، وبياض الوجوه من أثر السجود. انتهى.
قلت: الغُــــرَّة هي البياض الذي يكون في الوجه ، والتَّحجيل هي البياض الذي يكون في الأيدي والأرجل.
وقال القرطبي رحمه الله في تفسير الآية: هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لأصحاب النبي ﷺ ، يعني أنهم يكونون قليلاً ثم يزدادون ويكثرون ، فكان النبي ﷺ حين بدأ بالدعاء إلى دينه ضعيفاً ، فأجابه الواحد بعد الواحد حتى قَــــوِي أمره ، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفاً ، فيقوى حالاً بعد حالٍ حتى يغلظ ساقه وأفراخه ، فكان هذا من أصح مثلٍ ، وأوضح بيان. انتهى.
وأخبر أنهم أحق بكلمة التقوى وأهلها كما في سورة الفتح }وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها{.
وأخبر أن الناس إن آمنوا بمثل ما آمن به الصحابة فقد اهتدوا }فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا{.
وشهد لهم الله تعالى أنهم المؤمنون حقا ،
قال تعالى
[والذين آمنوا وعملوا الصالحات وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم].
وأمره بمشاورتهم ، تنبيهًا لمن بعدهم من الحكام على المشـاورة في الأحـكام ،
فقـال
[وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله].
وندب من جاء بعدهم إلى الاستغفار لهم ، وأن لا يجعلوا في قلوبهم غلاً للذين آمنوا ،
فقال
[والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم].
وأوضح أنهم خير القرون ، فقال ﷺ :
خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم
[12].
ولفظ مسلم: خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم.
وفي الحديث شهادته ﷺ لهم بأنهم خير الأمم.
وأجرُهم مضاعف على أجر من جاء بعدهم ،
لقوله ﷺ :
(لا تسبوا أصحابي ، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه)
[13].[14]
قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث:
(قال البيضاوي[15]: معنى الحديث: لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أحدٍ ذهبا من الفضل والأجر ما ينال أحدهم بإنفاق مد طعام أو نصيفه ، وسبب التفاوت ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص وصدق النية.
قلت: وأعظم من ذلك في سبب الأفضلية عِظم موقع ذلك لشدة الاحتياج إليه ، وأشار بالأفضلية بسبب الإنفاق إلى الأفضلية بسبب القتال ،
كما وقع في الآية
[من أنفق من قبل الفتح وقاتل]
، فإن فيها إشارة إلى موقع السبب الذي ذكرته ، وذلك أن الإنفاق والقتال كان قبل فتح مكة عظيما لشدة الحاجة إليه وقلة المعتني به ، بخلاف ما وقع بعد ذلك ، لأن المسلمين كثُروا بعد الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا ، والله أعلم)[16].
وقد جاء في التنزيل ذكر رِضَى الله عنهم في موطنين من القرآن ، وهما
قوله تعالى
﴿لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنـزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً﴾
[17].
كما ورد الرضى عنهم في سورة التوبة ،
قال تعالى
﴿والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم﴾
[18].
وما أحسن قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: من كان مستناً فليستنن بمن قد مات ، أولئك أصحـاب محمد ﷺ ، كانوا خير هذه الأمة ، أبرها قلوباً ، وأعمقها علماً ، وأقلها تكلفًا ، قوم اختارهم الله لصــــــحبة نبيه ﷺ ، ونقلِ دينه ، فتشبَّهوا بأخلاقهم وطرائقهم ، فهم أصحاب محمد ﷺ ، كانوا على الهدى المستقيم[19].
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد ﷺ خير قلوب العباد ، فاصطفاه لنفسه ، فابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد ، فجعلهم وزراء نبيه ، يقاتلون على دينه ، فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رأوه سيئا فهو عند الله سيء[20].
وقوله رضي الله عنه (المسلمون) يعني بذلك علماءهم ، لأن العلماء هم أهل النظر وهم حملة الشريعة.
ولقد تواترت الأحاديث عن النبي ﷺ في فضل الصحابة رضوان الله عليهم ووجوب تعظيمهم وإكرامهم وكونهم خير قرون هذه الأمة بعد النبي ﷺ ، ولقد عقد البخاري ومسلم في
صحيحيهما ، وكذا أهل السنن وغيرهم ، فصولا في فضائل الصحابة ، أوردوا فيها الكثـير من الأحاديث الواردة في فضلهم ، وبعضهم أفرد كتبا مستقلة في فضائلهم ، كالنسائي وأحمد رحمهم الله.
وبناء على هذه النصوص فقد أجمعت الأمة على أن الصحابة رضي الله عنهم أفضل هذه الأمة بعد النبي ﷺ .
المراجع
- بتصرف يسير من «الشفا» للقاضي عياض ، الفصل السادس: ومن توقيره وبره توقير أصحابه وبرهم.
- سورة الحشر: 10 .
- قاله في كتابه «العقيدة الواسطية».
- «التمهيد» ، كتاب الصيام ، باب ما جاء في الصيام في السفر ، (2/224) ، الناشر: الفاروق الحديثة – مصر.
- النوع التاسع والثلاثون.
- هو الحافظ الكبير الإمام محـدث الشام والعراق أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي ، مات سنة 412 هـ . انظر ترجمته في «تذكرة الحفاظ» (3/221).
- سورة آل عمران: 110 .
- سورة البقرة: 143 .
- الـمُهج جمع مُهجة ، وهي الروح. انظر «لسان العرب».
- «الكفاية في علوم الرواية» ، باب ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة وأنه لا يحتاج للسؤال عنهم ، وإنما يجب ذلك فيمن دونهم ، باختصار.
- سورة الفتح ، الآية: 29 .
- رواه البخاري (2652) ومسلم (2533) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
- النصيف هو النصف ، والمد هو ربع الصاع ، يعني أن صدقة الصحابي لو كانت مُدَّا أعظم ثوابا مـمن أتى بعده ولو كانت كجبل أحد ، وانظر «النهاية».
- رواه البخاري (3673) ، ومسلم (2541) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه ، رواه مسلم (2540).
- هو عبد الله بن عمر بن محمد بن علي ، أبو الخير ، ناصر الدين ، البيضاوي ، كان إماما علامة عارفا بالفقه والتفسير والأصلين والعربية ، نظارا صالحا متعبدا زاهدا شافعيا. انظر «طبقات المفسرين» للداوودي ، ص 173 ، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت.
- باختصار من «فتح الباري».
- سورة الفتح: 18 .
- سورة التوبة: 100 .
- رواه أبو نعيم في «الحلية» (1/379) ، ورواه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (2/134) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بنحوه.
- رواه أحمد في «مسنده» (1/379) ، وقال محققو «المسند»: إسناده حسن.