البحث
ملحق الدليل السابع والتسعين من دلائل عظمة النبي ﷺ
ملحق الدليل السابع والتسعين من دلائل عظمة النبي ﷺ
تقدم في فصل الدلائل على عظمة النبي ﷺ ذِكر الدليل السابع والتسعين على عظمة النبي ﷺ ، وهو كون سيرته محفوظة بتفاصيلها الدقيقة ، بخلاف غيره من الأنبياء والعظماء ، وهذا أوان التفصيل في هذا الوجه.
محمد (صلى الله عليه وسلم)؛ كتابٌ مفتوح على مر القرون إلى نهاية الدنيا[1]
مقدمة
ومن دلائل عِظم قدره (صلى الله عليه وسلم) أن سيرته وحياته تُـــــعَـــــدُّ كتابا مفتوحا لكل قارئ ومسترشد إلى نهاية العالم، فهو النبي الوحيد الذي يعرف الناس عنه كل شيء، حتى ما يدور داخل غُـــــرَف نومه وحياته الزوجية، فلم يحاول إخفاء شيء من حياته العامة أو الخاصة، لماذا؟ لأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، ولابد لمن كان كذلك أن لا يَـخفى من أمره شيء، حتى يتأسى الناس بكل جانب من جوانب حياته.
لقد ذُهل أحد اليهود من شمولية تعاليم النبي (صلى الله عليه وسلم) وتغطيتها لكافة مناحي الحياة وأركانها، فقال لبعض المسلمين: علَّمكم نبيكم كل شيء، حتى الخِراءة[2]، فقال: أجـل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائـِط أو بول، أو أن نستنجي باليمين[3]، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيعٍ[4] أو عظمٍ[5].
ولكي يُــــتِم الله تعالى نشر هذه الفضائل والمكارم، قــــــيَّـــــــــض للنبي (صلى الله عليه وسلم) أصحابا أمناء، وزوجات فاضلات، نقلوا كل شيء سمعوه من نبيهم ورأوه منه في سفره وإقامته، في حِــــــلِّــــــهِ وترحاله، في أمنه وخوفه، في يُسره وعُسره، في سِلمه وحربه، في عبادته وأخلاقه، في بيعـــــــه وشرائه، ماذا كان يقول عند النوم، ماذا كان يقول عند اليقظة، ماذا كان يقول عند القلق، ماذا كان يقول عند الأرق، ماذا كان يقول عند الفزع، ماذا كان يقول عند دخول الحمام والخروج منه، وعند دخول المنزل والخروج منه، وعند دخول السوق، وعند رؤية الهلال، وعند نزول المطر، وعند لبس الثوب الجديد، وعند رؤية أهل البلاء، وعند الوُضوء، وبعد الفراغ من الوضوء، وعند استفتاح الصلاة، وأثناء الصلاة، وبعد الصلاة، حتى عند جِماع الزوجة،
فقد رووا عنه أنه (صلى الله عليه وسلم) قال:
لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: (بسم الله، اللهم جنِّــــــبــــنــــي الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا)، فإنه إن يُقدَّر بينهما ولدٌ في ذلك لم يضرَّه شيطان أبدا
[6].
وسوف أذكر فهرساً لكتابٍ واحدٍ من الكتب المتعلقة بالنبي (صلى الله عليه وسلم) ليعرف القارئ تلك المعجزة التي حققها المسلمون بضبط كافة تفاصيل حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) ونقلها إلى الناس بكل دقة وأمانة.
هذا الفهرس هو لكتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد» للإمام ابن القيم رحمه الله ذكر فيه كل ما يتعلق بهدي النبي وسنته في عباداته ومعاملاته، وأخلاقه وآدابه، وشؤونه اليومية، وذلك على النحو التالي:
1- في ذكر نسبه
2- كيفية تربيته ووفاة والديه
3- ذكر مبعثه ومراتب الوحي
4- في ختانه
5- في ذِكر مرضعاته
6- في ذِكر حَــــوَاضِنه[7]
7- في مبعثه نبيا وأول ما نزل عليه من الوحي
8- في ذِكر أسمائه
9- في ذِكر أولاده
10- في ذِكر أعمامه وعماته
11- في ذِكر أزواجه
12- في ذِكر خُـــــدَّامه
13- في ذِكر كُتّابه
14- في ذِكر كتبه ورسله إلى الملوك
15- في ذِكر مؤذِّنيه الذين كانوا يؤذنون للصلاة
16- في ذِكر أُمرائه الذين كان يستعملهم على البلدان
17- في ذِكر حَرسه
18- في ذِكر من استعمل على نفقاته ومن كان يَــــأْذِنُ عليه[8]
19- في ذِكر شعرائه وخطبائه
20- في ذِكر حُداتِه الذين كانوا يَـحدون بين يديه في السفر
21- في ذِكر غزواته وبعوثه وسراياه
22- في ذِكر سلاحه وأثاثه
23- في ذِكر دوابّه
24- في ذِكر ملابسه
25- في ذِكر عِمامته وسراويله ونعله وخاتمه وغير ذلك
26- في ذِكر هديه في الأكل والشرب
27- في ذِكر هديه في النكاح ومعاشرة أهله
28- في ذِكر هديه وسيرته في نومه وانتباهه
29- في ذِكر هديه في ركوب دابته
30- هديه في اتخاذ الغَــــنم ومعاملة الإماء والعبيد
31- هديه في بيعه وشرائه ومعاملاته
32- هديه في مسابقته
33- هديه في معاملته
34- هديه في مشيه وحده أو مع أصحابه
35- هديه في جلوسه واتكائه
36- هديه عند قضاء الحاجة
37- هديه في الفطرة (قص الشارب، تقليم الأظفار، حلق العانة، نتف الإبط وغير ذلك)
38- هديه في كلامه وسكوته
39- هديه في خُطبه
40- هديه في الوضوء والأذكار الصلاة
41- هديه في الصلاة
42- هديه في السُّنن الرواتب والتطوعات في الحضر والسفر
43- هديه في قيام الليل
44- هديه في قراءة القرآن وترتيله
45- هديه في صلاة الضحى
46- هديه في سجود الشكر
47- هديه في سجود القرآن
48- هديه في صلاة الجمعة
49- هديه في العيدين
50- هديه في صلاة الكسوف
51- هديه في الاستسقاء (الصلاة لطلب نزول المطر)
52- هديه في السفر وعبادته فيه
53- هديه في عيادة المرضى
54- هديه في الجنائز والقبور والتعزية
55- هديه في صلاة الخوف
56- هديه في الصدقة والزكاة وإنفاق المال
57- هديه في الصيام
58- هديه في الحج والعمرة
59- هديه في الذبح، أي ذبح البهيمة للأكل
60- هديه في تسمية المولود وخِـــتانه
61- هديه في الأسماء والـكُـنى
62- هديه في الأذكار المطلقة والمقيدة
63- هديه في السلام
64- هديه في الاستئذان
65- هديه في العطاس والتثاؤب
66- هديه عند الغضب
67- هديه في الجهاد والغزوات
68- هديه في إعداد العدة واتخاذ الوسائل للحرب
69- هديه في الأُسارى
70- هديه في عقود الأمان، ومعاهدات الصلح، ومعاملة رسل الكفار، وأخذ الجزية، ومعاملة أهل الكتاب والمنافقين
71- هديه في عقد الذمة وأخذ الجزية
72- هديه في مكاتباته إلى الملوك وغيرهم
73- هديه في علاج أمراض القلب (النفس) وأمراض البدن ومن ذلك: علاج الحمى، والإسهال، والطاعون، والاستسقاء، والجروح، والحِجامة، والصَّرع، وعرق النسا، والصداع، والحكة، والرمد، والأورام والـخُــــرَّاجات، والسُّم، والقرحة، واللدغة، وغير ذلك
74- هديه في علاج الهم والحزن والأرق
75- هديه في علاج المصائب
76- هديه في حفظ الصحة
77- هديه في تدبير أمر الـمَسكن
78- هديه في النوم واليقظة
79- هديه في الرياضة
80- هديه في الـجِماع
81- هديه في علاج العشق
82- هديه في الأقضية والأحكام في مختلف القضايا،كالسرقة، والزنا، والأسرى، وقسمة الغنائم، وعقوبة الساحر، والنكاح، والطلاق، والخلع، والأنساب، والحضانة، والنفقة، والرضاع، والإحداد، والبيوع.
انتهى النقل من فهرست كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد».
***
فصل في شهادات بعض المستشرقين في شمول تعاليم النبي (صلى الله عليه وسلم) لمناحي الحياة
لقد قال أحد علماء الألمان:
((يكفي لإقناع أوربا بعظمة محمد وصِدقه أن يُــــــتَرجم لهم كتاب «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» للقاضي عياض رحمه الله)).
إنه لا يوجد نبي من الأنبياء يستطيع أن يكون قدوة لجميع البشر في كافة مناحي الحياة وتفاصيلها سوى محمد، لأنه لا يوجد نبي من الأنبياء نُـــــقِــــلَ عنه كل شيء عن أدق تفاصيل حياته سوى محمد.
ولنضرب لذلك مثلاً بالمسيح عليه السلام.
إنني لا أستطيع أن أقتدي بالمسيح مثلاً في حياته الزوجية وعشرته لزوجته، لأنه ببساطة لم يكن متزوجاً.
ولا أستطيع أن أقتدي به في تربية الأبناء، لأنه لم تكن لديه ذرية.
ولا أستطيع أن أقتدي به في حروبه وقتاله، لأعرف منه آداب القائد المحارب، لأنه ببساطة لم يحارب.
نعم هو أَمَـــــرَ أَتْــــــباعه بأن يبيعوا ملابسهم، ويشتروا بها سيوفاً كما ذكر لوقا في إنجيله (22-36)، ولكن الظروف لم تتهيأ له لاستعمال هذا السلاح في مقاومة الشر والطغيان، وبذلك لا نستطيع أن نتأسى به في ذلك أبداً.
لا نستطيع أن نعرف منه كيف تكون أخلاق المنتصر نحو أعدائه الذين آذوه واضطهدوه، لأن الفرصة لم تسنح له – عليه السلام - أن يكون منتصراً.
لا نستطيع أن نتأسى به كحاكم وصاحب سلطة يحكم بين الناس ويقضي بينهم بالحق، لأنه – عليه السلام - لم يكن حاكماً أو قاضياً.
أما مـحمد - صلى الله عليه وسلم - فإننا نستطيع أن نتأسى به في ذلك كله، فقد كان زوجاً، وحاكماً، وقاضياً، ومحارباً، وقائداً، وفاتحاً، ومنتصراً، وكانت أخلاقه في تلك المواقف المختلفة على أكمل وجه وأحسنه، ولذلك ذكرنا في بداية هذا الفصل أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان كتاباً مفتوحاً لكل قارئ ومسترشد ومهتدٍ[9].
***
وقال الشيخ سيد سليمان الندوي رحمه الله (1373 هـ) في كتابه «الرسالة المحمدية»، ص 88-89:
[10]وقد كتب جون ديونبورت John Davenport في سنة 1870 م كتابا بالإنجليزية في السيرة المحمدية عنوانه «اعتذار من محمد والقرآن» (An Apology from Mohammad & the Quran) والذي يقرؤه يُـــخَــــــيّل إليه أنّه كتبه بنزعة الإخلاص والإنصاف، ويقول في مقدمته:
(لا ريب أنه لا يوجد في الفاتحين والمشرعين والذين سنُّوا السنن من يعرف الناس حياته وأحواله بأكثر تفصيلا وأشمل بيانا مما يعرفون من سيرة محمد صلّى الله عليه وسلم وأحواله).
***
وقال أيضا في كتابه «الرسالة المحمدية»، ص 88-89:
[11]ألقى ريورند باسورث سميث Basworth smith عضو كلية التثليث في أوكسفورد سنة 1874 م محاضرات عن (محمد والمحمدية) في الجمعية الـمَـــلَـــــكية لبريطانيا العظمى، هذا الكتاب أشد تحاملا على النبي صلّى الله عليه وسلم، ومما جاء فيه:
(كلّ ما يقال في الدّين يغلب فيه الجهل ببدايته، ومما يؤسَف له أن هذا يصحّ إطلاقه على الدّيانات الثلاث [12]وعلى أصحابها الذين نعُـــــدُّهم تاريخيين، لأننا لا نعمل لهم وصفا أحسن من هذا الوصف، فإنّنا قلّما نعلم عن الذين كانوا في طلائع الدعوة، والذي نعلَمه عن الذين جاؤوا بعدهم واجتهدوا في نشر عقائدهم أكثر من الذي نعلمه عن أصحاب الدعوة الأولين.
فالذي نعلمه من شؤون زردشت وكونفوشيوس أقل من الذي نعلمه عن سولون وسقراط.
والذي نعلمه عن موسى وبوذا أقل مما نعلمه عن أمبرس[13] وقيصر.
ولا نعلم من سيرة عيسى إلا شذرات تتناول شعبا قليلة من شعب حياته المتنوعة والكثيرة.
ومن ذا الذي يستطيع أن يكشف لنا الستار عن شؤون ثلاثين عاما هي تمهيد واستعداد للثلاثة أعوام التي لنا عِلم بها من حياته. إنّه بَعث ثلث العالم من رقدته، ولعله يُـــحيِــــي أكثر مما أحيا، وحياته المثالية بعيدة عنّا مع قربها منّا، وإنها تتراوح بين الممكن والمستحيل، بَــــــيْـــــدَ أنّ كثيرا من صفحاتها لا نعلم عنها شيئا أبدا، وما الذي نعلمه عن أمّ المسيح، وعن حياته في بيته، وعيشته العائلية، وما الذي نعلمه عن أصحابه الأولين، وحوارِيه، وكيف كان يعاملهم، وكيف تدرجت رسالته الروحية في الظهور، وكيف فاجأ الناس بدعوته ورسالته. وكم وكم من أسئلة تجيش في نفوسنا، ولن يستطيع أحد أن يجيب عليها إلى يوم القيامة؟!
أما الإسلام فأمره واضح كلّه، ليس فيه سرّ مكتوم عن أحد، ولا غُــــــمَّة يَــنْـبَــهِـمُ أمرها على التاريخ. ففي أيدي الناس تاريخه الصحيح، وهم يعلمون من أمر محمد صلّى الله عليه وسلم كالذي يعلمونه من أمر «لوثر» و «ملتن»، وإنّك لا تجد فيما كتبه عنه المؤرخون الأولون أساطيرا ولا أوهاما ولا مستحيلات، وإذا عرض لك طرف من ذلك أمكنك تمييزه عن الحقائق التاريخية الراهنة، فليس لأحدٍ هنا أن يخدع نفسه، أو يخدع غيره، والأمر كلّه واضح وضوح النهار، كأنه الشمس رأْد الضُّحى[14] يتبين تحت أشعة نورها كلّ شيء) .
***
كلمات كبار المستشرقين في المقارنة بين محمد صلّى الله عليه وسلم وبين من سبقه من الرسل في جانب حفظ سيرتهم[15]
وجدير بالذكر شهادة الإنجليزي «باسورث سميث»[16] إذ يقول: «ترى الشمس هـٰهنا بارزة بيضاء، تثير أشعتها كلَّ شيء وتصل إلى كل شيء. لاشك أن في الوجود شخصيات لا نعلم عنها شيئًا، ولا نتبيَّن حقيقتها أبدًا، أو تبقى منها أمورٌ مجهولة، بيد أن التاريخ الخارجي لمحمد صلى الله عليه وسلم نعلم جميع تفاصيله، من نشأته إلى شبابه، وعلاقته بالناس، وروابطه، وعاداته، ونعلم أول تفكيره، وتطوره، وارتقاءه التدريجي، ثم نزول الوحي العظيم عليه نوبةً بعد نوبةٍ، ونعلم تاريخه الداخلي بعد ظهور دعوته وإعلان رسالته، وأن عندنا كتابه (القرآن) لا مثيل له في حقيقته، وفي كونه محفوظاً مصونًا، وفي عدم التزام الترتيب في معانيه، وأنه لم يستطــــــــــع أحد أن يشُك فيه شكًّا يُـــــعْـــــتَـــــدُّ به، فهو عندنا مُـمَــــثِّــــل لروح عصره، ومرآة لبيئته، فهو لذلك بريء من كل تصنّع أو تكلف»[17].
***
وقال جون ديونبورت[18] في كتابه «الاعتذار عن محمد والقرآن»[19]:
(إنّ أتْــــــباع عيسى ينبغي لهم أن يجعلوا على ذِكْـــــرْ منهم أنّ دعوة محمد أحدثت في نفوس أصحابه من الحميّة ما لم يحدث مثله في الأتْـــــــباع الأولين لعيسى، ومن بَـــحَث عن مثل ذلك لا يرجع إلا خائبا، فقد هرب الحواريون وانفضُّوا عن عيسى حين ذهب به أعداؤه ليصلبوه، فخذله أصحابه، وصَحَوا من سكرتهم الدّينية، وأسلَموا نبيّهم لأعدائه يسقونه كأس الموت، أما أصحاب محمد فالتفُّوا حول نبيهم الـمَـــبغي عليه، ودافعوا عنه مُـخاطرين بأنفسهم إلى أن تغلّب بهم على أعدائه). انتهى كلامه.
ثم قال الشيخ سيد سليمان الندوي رحمه الله في كتابه «الرسالة المحمدية»:
(وحين كرّ [20]مشركو قريش يوم أُحُــــد على المسلمين، فاختلَّت صفوفهم وتفرّق جمعهم؛ نادى الرسول صلّى الله عليه وسلم:
من يفديني؟ فخرج من الأنصار سبعة دافع كلُّ واحد منهم عن الرسول، وما زال يقاتل دونه حتى قُـــــتِـــل، وقد قُــــتِــــل لامرأة من الأنصار في هذه الحرب ثلاثة رجال مِن بيتها؛ أبوها، وأخوها، وزوجها، وتـــــتابع إليها نعيُ الثلاثة واحدا بعد واحد، فكانت تسأل أولا عن الرسول صلّى الله عليه وسلم: كيف هو؟ فيقولون لها: إنّه سالم. ثم لما رأت وجهه صلّى الله عليه وسلم سُــرِّيَ[21] عنها، ولم تتمالك أن صاحت قائلة: «كلُّ مصيبة بعدك جَـــلَـــلٌ [22]يا رسول الله».[23]
إنّ الذين دافعوا عنه وقُــــتِلوا دونه وفَدَوه بأنفسهم قد عرَفوه حقّ المعرفة، وعلِموا سنته وهديه وخُــلُــــقه، ولولا أنّ حياة الرسول صلّى الله عليه وسلم كانت عظيمة كاملة، ونَفسُه كانت أحبّ النفوس إليهم وأعظمها في أعين أصحابه وأحبابه؛ لـمَا فدوه بأنفسهم. ومن أجل ذلك كانت حياة النّبيّ صلّى الله عليه وسلم أسوة لأصحابه، ومحبته ذريعة [24]لمحبة الله،
فقال الله عزّ وجلّ:
[قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه]
، فجعَل اتِّباع الرسول في أخلاقه وأعماله، والاقتداء بسنته وهديه من علامات حبّهم لله، ومن السّهل أن يبذل الإنسان نفسه حـمِـــيّة لدينه لأمر يعرض له فجأة، ولكن من العسير أن يقتدي المرء مدّة حياته كلّها في جميع أطوارها وشُـــعَـــبها ومناحيها بهدي شخص وسننه اقتداء كاملا، لا يحيد عنه، ولا يَــــعدِل إلى شيء غيره، أما أصحاب محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فإنهم اتبعوه في جميع أخلاقهم وأعمالهم وسائر نواحي حياتهم وطرقها، واقتفوا أثره، وامتُحنوا في ذلك امتحانا شديدا، وأبلوا فيه بلاء عظيما، ثم خرجوا من هذا الامتحان فائزين.
وإنّ الوَلَــــعَ الشديد بالرسول والمحبّة الصادقة له قد حمل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، ثم المحدِّثين ومؤلفي السير والمؤرخين، على أن يُعنوا عناية كبرى بجمع كلّ ما يتعلق بالرسول صلّى الله عليه وسلم من قول وعمل، وأمر ونهي، وحديث وخُــــلُــق، وأن يُـــــبَـــلِّغوا ذلك للذين يأتون بعدهم، فأحسنوا كلّ الإحسان ووفَّـــــوا هذه المهمّة حقها، ليعمل بهذه الهداية كلُّ مسلم ما استطاع، ولولا أنّ حياة محمد صلّى الله عليه وسلم كانت كاملة وعظيمة في عيون أصحابه لما اعتبَــــروا اتّباعه شرفا لهم وكمالا، ولـمَا عَـــــدُّوا الاقتداء به ملاك السّعادة، وأصل الهناء، وقوام الخير.
فالإسلام قرّر أنّ حياة محمد هي الـمَثل الكامل لجميع المسلمين، وينبغي بيان جميع نواحيها وشُــــعَــــبِها ووجوهها للناس كافّة، وقد حقّق المسلمون ذلك، وحرصوا على معرفة ذلك وبيانه، فلم تُــــخفَ منه خافية، ولم تُـــــفقد ولا حلقة واحدة من سلسلة الحياة النبوية المباركة، فجميع أحواله وشؤونه مسطورة في كتب التاريخ، ومن ذلك يُستدلّ على أنّها كانت حياة كاملة، ولا تكون كذلك إلا إذا كانت واضحة ناصعة معلومة من كل وجوهها ونواحيها، جامعة لجميع المحامد، شاملة لأكرم الأخلاق وأحسن التعاليم.
سُـــنَن الأمم السالفة في الأخلاق بادت ولم يبق إلا سُـــنَن الإسلام
لقد كانت لبلاد بابل والهند والصين ولمصر والشام واليونان والرومان حضارات زاهرة، ومدنيّات عظيمة، وثقافات عالية، وقد كانت لأهالي تلك البلاد سنن في الأخلاق اتخذوا منها أصولا وضوابط للثقافة، وآدابا للمعاشرة في النهوض والقعود والكلام والطعام والشراب، واختاروا مناهج خاصّة بمعيشتهم، ووضعوا آدابا لهم في الزِّيّ والشارة[25]، وأوضاعا في الملابس، وكان لهم هديٌ في نومهم ويقظتهم، وحدودٌ في لقاء الناس والتعامل معهم، وسنّوا لأنفسهم سننا في الزواج، ورسموا رسوما للتهنئة والتعزية وتكفين الموتى ودفنهم، ولم يتركوا حالا من أحوال الإنسان- من عيادة المريض، ومصافحة الإخوان، ولقاء الخلّان، والاستحمام- إلا اتخذوا لها السنن والرسوم والآداب، فنشأت من ذلك أصول وقواعد لمدنِــــيَّـــــتِهم، وثقافتهم.
وبديهيٌّ أنّ هذه السنن والآداب لم تتم لهم إلا في قرون متطاولة، ثم دَرسَت[26] آثارها، ومُـحِيت رسومُها، وطُمست معالمها، فكان قيامها واكتمالها في زمان طويل، وزوالها في مدّة قليلة.
أما مدنية الإسلام وثقافته فإن قيامهما واكتمالهما وظهور بهائهما في سنوات قليلة، ولا تزال مدنِــــيةُ الإسلام وثقافته مستمرة ومعمولا بها في الدّنيا منذ أربعة عشر قرنا بين أُمَمٍ شتّى وأقوام مختلفة، يستوي في ذلك العربيّ والهنديّ، والشرقيّ والغربي، لأنّ المسلمين اقتبسوا ذلك من مشكاة نبيهم صلّى الله عليه وسلم، وتأسَّوا فيه بحياته الكريمة، فاستنارت بهذا النور حياة الصحابة، وانعكست أضواؤها على حياة التابعين ومن جاء بعدهم، فنشأت عن ذلك بيئة صالحة زكيّة، وكان منها للعالم الإسلامي كلّه أسوة حسنة في رسومه الفاشِــــــيَة وآدابه القويمة.
ويمكننا أن نقول بعبارة أخرى: إن الحياة المحمدية كانت مركز الدائرة، فجاء الصحابة فخَـــطُّوا حول نقطة المركز خطوطا تمّت بها تلك الدائرة، والتف المسلمون بعد ذلك من حولها. وإذا كانت المدنية الإسلامية لم تبق اليوم في مِثل كمالها الأول، وجمالها الأسنى؛ فإن آثارها لا تبرح باقية تلمع، والمسلمون يقتفون تلك الآثار إلى يومنا هذا.
وقد علِمنا أنّ حياة محمد صلّى الله عليه وسلم كانت في بادئ الأمر قدوة لجميع الصحابة في حياتهم، فكانوا يهتدون بهديه، ويستنّون بسنّته، ثم كان لسائر المسلمين أسوة حسنة بها يتخذونها مثالا كاملا لهم، ولا تنفكُّ صورتُــها معروفةً لهم، باقيةً فيهم.
ولو أنّ قبيلةً من وثَــــنِـــــيِّـــي الهند أو إفريقية تنصّرت ودخلت في دين المسيح عليه السلام فإنّها تأخذ مسيحيتها من الأناجيل، أما مدنيتها ومنهاج حياتها في مظاهرها وأوضاعها فإن تلك القبيلة تأخذه عن مدنية أوربا وثقافتها ومنهاج حياتها، وليس ذلك من المسيحية في شيء.
أمّا الإسلام فإذا دخل في هدايته قوم جُــــدُد لم يكونوا مسلمين من قبل، فإنهم كما يقتبسون دينهم مما كان يدعو إليه النبي صلّى الله عليه وسلم، فإنّهم من هديه ومن سنته أيضا يتعلمون آداب المعاشرة، ومنهاج الحياة الاجتماعية، وطرق المعيشة.
وإنّ تعاليم الرسول صلّى الله عليه وسلم- من أدبٍ وخُــــلُــــقٍ ومعاشرة- هي التي تؤثر في أخلاق المسلمين، فـــــتُـــــصاغ في هذه البَـــوْتقة حتى تُـــسبَك بها في أزكى قالب.
وقد قال يهوديٌّ مرةًّ لأحد الصحابة وهو يُـــــعَــــرِّض بالإسلام: إنّ رسولكم يعلمكم كلّ شيء، حتى بعض الأمور الحقيرة.
فأجابه الصحابي وهو مغتبط: نعم، إن رسولنا يعلمنا كل شيء، حتى آداب الخروج إلى الخلاء.
وكذلك نحن لا نزال نقدّم للناس تلك السيرة الكاملة التي هي لنا سراج وهّاج في جميع شؤون الحياة البشرية، فكأنّ السيرة المحمّدية مرآة صافية للدّنيا كلّها يرى فيها كلُّ إنسان صورته وروحه، ظاهره وباطنه، قوله وعمله، خلقه وأدبه، هديه وسنته، وفي استطاعته أن يُصلح أخلاقه ويُــــــثَــــقِّـــــف عِــــوَجه بحسب ما يراه في تلك المرآة الصّافية.
***
المسلمون لا يحتاجون إلى أصول وضوابط من خارج دينهم
لأجل ذلك لا ترى أمّة مسلمة تبحث في خارج دينها وبمنأى عن سيرة نبيّها عن أصول وضوابط تُــــقَــــوِّم بها اعوجاجها، وتُصلح زيغها، لأنها في غنى عمّا هو أجنبيّ عنها، وعندها في هدي سيرة نبيها صلّى الله عليه وسلم الميزان القويم والقِسطاس المستقيم، الذي تتبين به ما في العالم من خير وشرّ، وتميّز به الحقّ من الباطل.
وفي الحق إنّ العالم كله لفي حاجة شديدة إلى سيرة بشرٍ كامل تتّخذ من حياته الأسوة العظمى، وليس في الدّنيا إنسان كامل يَعرف التاريخ سيرته على التفصيل كما يعرف تفاصيل حياة محمّد صلّى الله عليه وسلم خاتم النبيين. فالناس كلّهم في أمسّ الحاجة إلى أن يتخذوا من السيرة المحمدية منهاج حياتهم، ففيها الأسوة الطّاهرة، وهي الحياة المثاليّة للناس جميعا.
انتهى كلام الشيخ سيد سليمان الندوي رحمه الله من كتابه «الرسالة المحمدية».
***
المراجع
- هذا فصل مهم، انتقيته من الكتاب المفيد: «من أسرار عظمة الرسول (صلى الله عليه وسلم) »، ص 41-50، لمؤلفه: خالد أبو صالح، الناشر: مدار الوطن للنشر – الرياض، وقد عدلت فيه وزدت عليه من مصادر علمية أشرت إليها في مظانِّها.
- أي آداب قضاء الحاجة.
- الاستنجاء هو التنظف بالماء من البول أو الغائط، ومعنى العبارة هو أن النبي (صلى الله عليه وسلم) نهى عن استعمال اليد اليمنى في الاستنجاء، وإنما يستعمل المسلم اليد اليسرى، لأن اليد اليمنى مُـكَــرّمــــــــَــة.
- الرجيع هو روث الدابة.
- رواه مسلم (262).
- رواه البخاري (5165) ومسلم (1434) عن ابن عباس رضي الله عنهما، واللفظ لمسلم.
- حواضنه أي النساء اللاتي احتضـنَّه لما كان صغيرا يتيما.
- أي الذي يأذِن للناس بالدخول عليه في بيته. راجع الزاد أفضل
- إلى هنا انتهى النقل بتصرف من كتاب «من أسرار عظمته صلى الله عليه وسلم»، والذي يأتي عبارة عن فوائد نقلتها من كتاب «الرسالة المحمدية»، للشيخ سيد سليمان الندوي رحمه الله.
- مستشرق إنجليزي، عاش في الفترة من (1597 – 1670م). انظر ترجمته باللغة الإنجليزية في wikepedia.org
- مستشرق أمريكي، عاش في الفترة من (1794 – 1884). انظر ترجمته باللغة الإنجليزية في wikepedia.org
- يقصد المؤلف ديانات بوذا وكونفوشيوس وزردشت.
- قال سيد عبد الماجد الغوري في حاشيته على الكتاب (الرسالة المحمدية) في التعريف بإمبرس أنه رئيس أساقفة ميلانو.
- الشمس رأد الضحى أي الشمس في الضحى في وقت انبساطها حين ارتفاع النهار. انظر «النهاية».
- هذا النقل من ص 106 من كتاب «الرسالة المحمدية».
- باسورث سميث مستشرق أمريكي، مات سنة 1857م. نقلا من هامش مؤلف كتاب «الرسالة المحمدية»، ص 106 .
- «الرسالة المحمدية»، ص 106-107، تأليف: سيد سليمان الندوي، عناية: سيد عبد الماجد الغوري، الناشر: دار ابن كثير – دمشق، بتصرف يسير.
- في المطبوع «هيجنس»، وأظنه خطـأ في الطبع، لأن مؤلف هذا الكتاب هو المذكور أعلاه: «جون ديونبورت».
- نقلا من كتاب «الرسالة المحمدية»، ص 108 .
- كرَّ أي هجم.
- سُــرِّي عنها أي ذهب عنها ما كانت تجد من الحزن.
- كلمة «جلل» من الأضداد، تقال للأمر الهين وتقال للأمر العظيم، والمقصود هنا الهين. انظر «النهاية» .
- رواه ابن جرير في «تاريخه» في أحداث غزوة «أُحُـد».
- ذريعة أي سبب.
- الشارة هي العلامة التي توضع على الملابس لتميزها عن غيرها من الملابس لتكون شعارا لأهل تلك البلد.
- أي زالت وانمحت.