البحث
الحق الرابع: أن لا يُعبد الله تعالى إلا بما شرع ، وليس بالأهواء والبدع الجزء الأول
من الأمور التي سار عليها السلف في طاعتهم واتباعهم للنبي ﷺ ؛ اتباع ما جاء في الكتاب والسنة والاعتصام بهما.
ومن الأمور التي سار عليها السلف كذلك محاربتهم للأهواء المتمثلة في المعصية والتقليد والرأي والبدعة ، فالسلف يعدون ذلك المربع مرضا خطيرا ، متى استشرى وانتشر في الأمة فإنه يفتك بعقيدتها وما هي عليه من الاتِّـباع للسنة النبوية ، وقد تقدم الكلام في التحذير من الثلاثة الأول ، وفيما يلي جملة من الآيات والأحاديث والآثار الواردة عن السلف – من الصحابة والتابعين – في الحذر من البدع ، ولزوم الكتاب والسنة ، وقبل الشروع في ذلك فإنه يحسن الكلام على تعريف البدعة وحدِّها فأقول: البدعة لغة هي الاختراع ، يقال ابتدع فلان شيئا أي اخترعه ،
وفي التنزيل
{ بديع السماوات والأرض }
[1]
، أي مخترعها وخالقها على غير مثال سابق.
وفي الشرع فإن الابتداع هو الإتيان بعبادة لم يأت نص من الكتاب والسنة بشرعيتها ، ومحلها الأمور الدينية ، فمن جاء بعبادة لم يتعبد بها النبي ﷺ ولا أصحابه فقد أتى ببدعة ، وأما الأمور الدنيوية من المخترعات والاكتشافات الحسية فليست داخلة في البدع[2].
فصل في الأمر بالاعتصام بالسنة والحذر من البدعة
عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال:
صلى بنا رسول الله ﷺ الصبح ذات يوم ، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ، ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب ، فقال قائل: يا رسول الله ، كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا مُجدَّعا[3] ، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكـم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، فتمسكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ[4] ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة.
[5]
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال:
من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد
[6].
وفي رواية لمسلم:
من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد
[7].
قال ابن رجب رحمه الله: هذا الحديث أصل عظيم من أصـول الإسلام ، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها ،
كما أن حديث
(إنما الأعمال بالنيات)
[8]
ميزان للأعمال في باطنها ، فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب ؛ فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردود على عامله ، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فليس من الدين في شيء. انتهى.
وعن حذيفة بن اليمان قال: كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ، فقلت: يا رسول الله ، إنا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر؟
قال: نعم.
قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟
قال: نعم ، وفيه دَخَن[9].
قلت: وما دخنه؟
قال: قوم يهدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر.
قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟
قال: نعم ، دعاة إلى أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها.
قلت: يا رسول الله ، صِفهم لنا.
فقال: هم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا.
قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ [10]
قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.
قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟
قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تَـعَض بأصل شجرة ، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك.
فصل في بيان حرص السلف على الاعتصام بالسنة والحذر من البدعة
وأما آثار السلف في باب الاعتصام بالسنة والحذر من البدع فكثيرة جدا ، ومن ذلك قول ابن سيرين: كانوا يرون أنه [11]على الطريق مادام على الأثر[12].[13]
وقال سفيان قال: إنما الدين بالآثار. [14]
وعن أبي الدرداء قال: إقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة ، إنك إن تتبع خير من أن تبتدع ، ولن تخطئ الطريق ما اتبعت الأثر[15].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم[16].
وعن إسماعيل بن عبيد الله يقول: ينبغي لنا أن نحفظ ما جاءنا عن رسول الله ﷺ ،
فإن الله يقول
{وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }
، فهو عندنا بمنزلة القرآن[17].
قال ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله»:
أهل البـدع أجـمع[18] أضربوا عن السنن ، وتأوَّلوا الكتاب على غير ما بينت السنة ، فضلوا وأضلوا ، نعوذ بالله من الخذلان ، ونسأله التوفيق والعصمة برحمته ، وقد روي عن النبي ﷺ التحذير عن ذلك في غير ما أثر[19].
قال الأوزاعي: ندور مع السنة حيث دارت[20].
قال أبو مسعود الأنصاري: إن دين الله واحد ، وإياكم والتلون في دين الله[21].
وروى الخطيب البـــــــغدادي عن عثمان بن حاضر الأزدي قال: دخلت على ابن عباس فقلت: أوصني ، فقال: عليك بالإستقامة ، اتبع ولا تبتدع[22].
وروى الــــهروي في «ذم الكلام وأهله» عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: يا أيها الناس ، إن الله بعث محمداً بالحق ، وأنـزل عليه القرآن ، وفرض عليه الفرائض ، وأمره أن يعلم أمته ، فبلّغ رسالته ، ونصح لأمته ، وعلّمـهم ما لم يكونوا يعلمون ، وبين لهم ما يجهلون ، فاتبِعوه ولا تبتدعـوا فقد كفيتم ، كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة[23].
ورواه الطبراني مختصرا بلفظ: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم ، كل بدعة ضلالة)[24] ، وكذا الدارمي[25].
وروى الهروي في «ذم الكلام وأهله» عن العلاء بن المسيب عن أبيه قال: إنا نتبع ولا نبتدع ، ونقتدي ولا نبتدي ، ولن نضل ما تمسكنا بالآثار[26].
وهو مروي عن ابن مسعود أيضا بلفظ: إنا نقتدي ولا نبتدي ، ونتبع ولا نبتدع ، ولن نضل ما تمسكنا بالأثر[27].
وعنه قال: الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة[28].
وعن ابن عباس رضي الله عنه: عليكم بالاستقامة واتباع الأمراء والأثر ، وإياكم والتبدع[29].
وعنه قال: إن أبغض الأمور إلى الله البدع[30].
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: إياكم وما ابتُدع ، فإن ما ابتُـدع ضلالة[31].
روى المروزي في «السنة» عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول: خير الدين دين محمد ﷺ ، شر الأمور محدثاتها ، اتبعوا ولا تبتدعوا ، فإنكم لن تضلوا ما اتبعتم الأثر ، إن تتبعونا فقد سبقناكم سبقا بعيدا ، وإن تخالفونا فقد ضللتم ضلالا كبيرا ، ما أحدثت أمة في دينها بدعة إلا رفع الله عنهم سنة هدى ثم لا تعود فيهم أبدا ، ولإن أرى في ناحية المسجد نارا تشتعل فيه احتراقا أحب إلي من أن أرى بدعة ليس فيه لها مُـغَـــيِّـر[32].
وقال الإمام أحمد بن حـنبل: أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله ﷺ ، والاقتداء بهم ، وترك البدع ، وكل بدعة فهي ضلالة ، وترك الخصومات ، والجلوس مع أصحاب الأهواء ، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين.
والسنة عندنا آثار رسول الله ﷺ ، والسنة تفسر القرآن ، وهي دلائل القرآن ، وليس في الســـــــنة قياس ، ولا تضرب لها الأمثال ، ولا تدرك بالعقول ولا الأهواء ، إنما هي الإتباع وترك الهوى[33].
وروى محمد بن نصر المروزي في كتابه «تعظيم قدر الصلاة» عن حسان بن عطية قال: خمس كان عليها أصحاب رسول الله ﷺ والتابعون [34]بإحسان: اتباع السنة ، ولزوم الجماعة ، وتلاوة القرآن ، والجهاد في سبيل الله.
قال أبو عبد الله[35]: وأظن قال: وعمارة المساجد[35].
وروى أبو داود عن أبي رجاء عن أبي الصلت قال: كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدَر فكتب:
أما بعد ؛ أوصيك بتقوى الله ، والاقتصاد في أمره ، واتباع سنة نبيه ﷺ ، وترك ما أحدث المُحدِثون بعد ما جـرت به سـنـته وكُفـوا مؤنته ، فعليـك بلزوم السنة ، فإنـها لك بإذن الله عـصمة
ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها ، فإن السنة إنما سنَّها من قد عَلِم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحُمق والتعمق ، فارضَ لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم ، فإنهم على علم وقفوا ، وببصر نافذٍ كُفوا ، ولَـهُم على كشف الأمور كانوا أقوى ، وبفضل ما كانوا فيه أولى ، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه ، ولئن قلتم إنما حدث بعدهم ؛ ما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم ، فإنهم هم السابقون ، فقد تكلموا فيه بما يكفي ، ووصفوا منه ما يشفي ، فما دونهم من مُقْصر وما فوقهم من محْسر ، وقد قصَّر قوم دونهم فجفوا ، وطمح عنهم أقوام فغَـلَوا ، وإنهم بين ذلك لعلي هدى مستقيم[36].
قال في «عون المعبود» ما محصَّله أن السلف الصالحين قد حبسوا أنفسهم عن كشف ما لم يُحتج إلى كشـفه من أمر الدين ، وكذلك كشَـفوا ما احتيج إلى كشـفه من أمر الديـن كشفا لا مزيد عليه ، (وطمح عنهم أقوام فغلَوا) أي في الكشف ، أي شدَّدوا حتى جاوزوا فيه الحد ، فهؤلاء قد أفرطوا وأسرفوا في الكشف ، كما أن أولئك قد فرطوا وقتروا فيه.
(وإنهم) أي السلف (بين ذلك) أي بين القصر والطمح ، أي بين الإفراط والتفريط ، بل كانوا على طريق مستقيم ، وهو الاقتصاد والتوسط بين الإفراط والتفريط ، ليسوا بمفرطين كالقوم القاصرين دونهم ، ولا بمفرطين كالأقوام الطامحين عنهم. انتهى.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما من عام إلا والناس يحيون فيه بدعة ويميتون فيه سنة ، حتى تحيا البدع وتموت السنن[37].
ولما ذُكر لابن مسعود رضي الله عنه أن أناسا يُسبحون بالحصا في المسجد أتاهم ، وقد كَـوَّم كل رجل منهم بين يديه كومة حصا ، فلم يزل يحصبهم بالحصا حتى أخرجهم من المسجد ثم قال: لقد أحدَثتم بدعة ظلما أو قد فَــضُلتم أصحاب محمد ﷺ علما[38].
المراجع
- سورة البقرة: 117 .
- انظر «الاعتصام» للشاطبي رحمه الله ، الباب الأول في تعريف البدع وبيان معناها.
- أي مقطع الأطراف.
- النواجذ آخر الاضراس ، ولكل إنسان أربع نواجذ.
- رواه ابن حبان (1/179) واللفظ له ، وأبو داود (4607) ، وابن ماجه (42) ، والترمذي (2676) ، وأحمد (4/126 – 127) ، وغيرهم ، والحديث صححه الألباني رحمه الله.
- رواه البخاري (2697) ومسلم (1718).
- رواه مسلم (1718) وأحمد (6/146).
- رواه البخاري (1) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
- دخن أي فساد واختلاف. انظر «النهاية».
- رواه البخاري (3606) ، ومسلم (1847).
- أي المرء.
- المقصود بالأثر طريق النبي ﷺ وصحابته من بعده.
- أخرجه ابن عبد البر في «جامعه» ، باب ما جاء في ذم القول في دين الله بالرأي ، (2/216).
- أخرجه ابن عبد البر في «جامعه» ، باب ما جاء في ذم القول في دين الله بالرأي ، (2/217).
- رواه المروزي في «السنة» ، برقم (89).
- رواه ابن وضاح في «البدع والنهي عنها» (16) ، باب ما يكون بدعة ، والدارمي في باب كـراهة أخذ الرأي (209) ، والبيهقي في «المدخل إلى السنن الكبرى» (204) ، والطبراني في الكبير (9/154) ، وزاد: كل بدعة ضلالة.
- رواه المروزي في «السنة» ، برقم (90).
- أي كلهم ، بتسكين الجيم.
- باب من تأول القرآن أو تدبره وهو جاهل بالسنة.
- رواه اللالكائي برقم (48).
- رواه الحاكم في «المستدرك» (4/507).
- انظر كتاب «الفقيه والمتفقه» ، باب القول في انه يجب اتباع ما سنّه أئمة السلف (456) ، والدارمي في باب من هاب الفتيا ، ولفظه: نعم ، عليك بتقوى الله والاستقامة ، اتبع ولا تبتدع.
- (2/165) ، رقم (247).
- انظر «المعجم الكبير» ، برقم (9/154).
- انظر «السنن» ، كتاب المقدمة ، باب في كراهية أخذ الرأي ، ولفظه: اتبعوا ولا تبتدعوا ، فقد كفيتم.
- (2/265) ، رقم (337).
- أخرجه اللالكائي برقم (106).
- أخرجه اللالكائي برقم (114) ، والدارمي في المقدمة ، باب في كراهية أخذ الرأي ، والحاكم في «المستدك» (1/103) ، والبيهقي (3/19) ، والمروزي في «السنة» (77).
- رواه المروزي في «السنة» (71) ، وأخرجه ابن وضاح في «البدع» في باب كل محدثة بدعة ولفظه: عليكم بالاستقامة واتباع والأثر ، وإياكم والتبدع.
- رواه البيهقي (4/316) ، والمروزي في «السنة» (72).
- رواه الحاكم في «المستدرك» (4/460).
- برقم (69).
- «السنة» للالكائي (1/176).
- «السنة» للالكائي (1/176).
- هو المروزي نفسه.
- باب أدلة الكتاب والسنة على أن الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام إنما هو بتصديقه واتباع ما جاء به ، (745).
- رواه أبو داود (4612) ، و «البدع والنهي عنها» ، باب كل محدثة بدعة ، (77) ، ورواه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» بنحوه عن عبد العزيز بن الماجشون ، باب ذكر ما تعلق به من أنكر المجادلة وإبطاله ، (2/555) ، والفظ لأبي داود.
- رواه ابن وضاح في «البدع والنهي عنها» (99) ، والمروزي في «السنة» (87).
- رواه ابن وضاح في «البدع والنهي عنها» (22) ، باب ما يكون بدعة.