1. المقالات
  2. السِّيرَةُ النَّبويَّةُ (تَربِيةُ أمَّةٍ وَبنَاءُ دَوْلَةٍ)
  3. التمهيد والإعداد

التمهيد والإعداد

الكاتب : صالح أحمد الشامي

التمهيد والإعداد:

إن النظر الفاحص في السيرة يؤكد أن الهجرة لم تكن عملاً مرتجلاً، وإنما سبقها التمهيد الواعي والإعداد المحكم، والتخطيط الواسع. .

كان ذلك بتقدير الله تعالى وترتيبه. وكان هذا الإعداد في اتجاهين، إعداد في شخصية المهاجرين، وإعداد في المكان المهاجر إليه.

1- إعداد المهاجرين:

لم تكن الهجرة نزهة أو رحلة يروح فيها الإنسان عن نفسه، ولكنها مغادرة الأرض والأهل، ووشائج القربى، وصلات الصداقة والمودة، وأسباب الرزق. . والتخلي عن كل ذلك من أجل العقيدة. . ولهذا احتاجت إلى جهد كبير تمثل في الوسائل المتعددة حتى وصل المهاجرون إلى قناعة كاملة بهذه الهجرة. ونذكر من ذلك:

- التربية الطويلة التي تحدثنا عنها فيما سبق من هذا الكتاب.

- الاضطهاد الذي أصاب المؤمنين حتى وصلوا إلى قناعة كاملة بعدم إمكانية المعايشة مع الكفر. حتى قال عمر في أيام إسلامه الأولى: فأحلف بالله لو قد كنا ثلاثمائة رجل، لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا.

- تناول القرآن المكي التنويه بالهجرة، ولفت النظر إلى أن أرض الله واسعة فقد جاء في سورة الزمر:

{قُلْ يَٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا ٱتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِى هَٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍۢ} (1).

ثم تلا ذلك نزول سورة الكهف، وفيها ذكر الفتية الذين آمنوا بربهم واضطروا حفاظاً على إيمانهم أن يهجروا بلدهم ويتجهوا إلى كهف من الكهوف خارجها. . ويثني الله تعالى عليهم. .

وهكذا تستقر صورة من صور الإيمان في النفوس وهي أن ترك الأهل والوطن قد يكون ثمناً للحفاظ على العقيدة . .

ثم تلا ذلك آيات صريحة تتحدث عن الهجرة في سورة النحل وهي قوله تعالى:

{وَٱلَّذِينَ هَاجَرُوا فِى ٱللَّهِ مِنۢ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ ٱلْأَخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ٱلَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2).

وفي أواخر السورة يؤكد المعنى مرة أخرى بقوله تعالى:

{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنۢ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَٰهَدُوا وَصَبَرُوٓا إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (3)

.وهكذا تهيأت النفوس لهذا الأمر. .

- وكانت الهجرة إلى الحبشة هي التدريب العملي على ترك الأهل والوطن.

وكانت أمراً متروكاً للمسلم يختاره إن أراد، وليست أمرأ إلزامياً من الرسول صلى الله عليه وسلم، كما كانت العودة كذلك، ولهذا عاد بعضهم لما سمعوا بالهجرة إلى المدينة. . (1).

- وكان من جملة هذا الإعداد، اختبار الذين لم يهاجروا - كما قلت سابقاً - وكانت مادة الاختبار هي حادثة الإسراء والمعراج. .

فقد ارتد ناس كانوا أسلموا وصلوا، فكانت تصفية للصف المسلم من الشوائب، وطرح الذين لم يكونوا أهلاً لتحمل مشاق الطريق، طريق الدعوة، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الاختبار بقوله:

{وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِىٓ أَرَيْنَٰكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (2).

تلك هي بعض الإجراءات التي اتخذت كوسائل للتمهيد للهجرة في نفوس المؤمنين، وقد استغرقت وقتاً طويلاً، وما ذاك إلا لكراهة الإنسان - كل إنسان - أن ينسلخ عن وطنه وبيئته إلا تحت ظروف ملجئة. .

وقد سجل القرآن الكريم هذا المعنى في سورة الحشر المدنية حين تحدث عن المهاجرين فقال تعالى:

{. . لِلْفُقَرَآءِ ٱلْمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَٰرِهِمْ وَأَمْوَٰلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ ۚ أُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ} (3).

فقوله تعالى: {أُخْرِجُوا} واضح منه عامل الإكراه والقسر وأن ذلك لم يكن عن رضى. وقد أكد هذا المعنى مرة أخرى إثر ما حدث في سرية عبدالله بن جحش، من قتل عمرو بن الحضرمي في الشهر الحرام. وانتقاد قريش لذلك فنزل قوله تعالى:.

{يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍۢ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌۢ بِهِۦ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِۦ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ ۚ. .} (1).

وهكذا فقد كانت الهجرة {إِخْرَاجًا} لا خروجاً. ولقد عبر صلى الله عليه وسلم عن ذلك بوضوح حين غادر مكة فقال: "والله إنك لأحب أرض الله إلي، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت منك" (2).

المراجع

  1. سورة الزمر: الآية 10.
  2.  سورة النحل: الآيتان 41- 42. 
  3.  سورة النحل: الآية 110.
  4. أما بقاء جعفر فإنما كان يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا الأمر بعد هجرته صلى الله عليه وسلم، وذلك حفاظاً على حياة المهاجرين. . كما سوف نتحدث عن ذلك في القسم الثالث من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
  5. سورة الإسراء: الآية 60.
  6. سورة الحشر: الآية 8
    1. سورة البقرة، الآية 217، وكذلك ورد النص في سورة آل عمران، الآيه195.
    2. أخرجه أحمد والترمذي، كما في شرح الزرقاني. على المواهب 1/ 328.


المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day