البحث
هجرته صلى الله عليه وسلم
خلت مكة من المسلمين أو كادت، وغلقت بعض الدور نتيجة لذلك، منها دار بني جحش. . وكل ذلك حدث - أو معظمه - في فترة قصيرة بين موسم الحج وشهر ربيع الأول. . الأمر الذي أيقظ قريشاً من غفلتها. . ولعلها لم تهتم للأمر أولاً، ثم فكرت فوجدت فيه الخطر عليها حسب زعمها. .
كان أبو بكر يستأذن للخروج ولكنه صلى الله عليه وسلم يقول له: "لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً".
ورأت قريش أن خروجه صلى الله عليه وسلم خطر عليها واتخذت من الوسائل ما تحول به بينه صلى الله عليه وسلم وبين مغادرة مكة. . وقص الله تعالى مكرهم بقوله:
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ ۖ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَٰكِرِينَ} (1).
ووصل صلى الله عليه وسلم إلى قباء يصحبه أبو بكر رضي الله عنه وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر. وأثناء إقامته بها وصل إليها علي بن أبي طالب بعد أن أدى الودائع التي كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابها. .
وانطلق الركب إلى المدينة، وكان الوصول إليها في الثاني عشر من شهر ربيع الأول.
استمرار الهجرة وبناء القاعدة:
قال ابن إسحاق: وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يبق بمكة منهم أحد، إلا مفتون أو محبوس. .(2).
ومن جملة هؤلاء صهيب الذي اضطر أن يتنازل عن ماله لقاء السماح له بالهجرة. .(3).
وكان صلى الله عليه وسلم يدعو للمستضعفين أن يفرج الله عنهم وييسر لهم الهجرة، ففي البخاري عن أبي هريرة قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء، إذ قال سمع الله لمن حمده، ثم قبل أن يسجد قال: "اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر. ." (1).
ونزل إثر غزوة بدر
{ِإِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّٰهُمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِىٓ أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى ٱلْأَرْضِ ۚ قَالُوٓا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰٓئِكَ مَأْوَٰهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَآءَتْ مَصِيرًا إِلَّا ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَٰنِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (2).
قال ابن كثير في تفسيرها؛ قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: (كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم فأصيب بعضهم، قال المسلمون: كان أصحابنا مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت
{إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّٰهُمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِىٓ أَنفُسِهِمْ}
الآية قال: فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الآية لا عذر لهم. . ) (3).
وبهذا أصبحت الهجرة في مجال الفرض والواجب، فكان كل من أسلم يجب عليه أن يبذل جهده قدر استطاعته في الهجرة فإن لم يستطع كان ممن عذر الله تعالى.
وتأكد هذا المعنى في أواخر سورة الأنفال. قال تعالى:
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَٰهَدُوا بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَوا وَّنَصَرُوٓا أُولَٰٓئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍۢ ۚ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَىْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ . .} (1).
وهكذا قطع الله الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر، وفي هذا ما فيه من الحث على الهجرة وفرضها على المسلمين يومئذ.
قال القاضي عياض: واتفق الجميع على أن الهجرة قبل الفتح كانت واجبة عليهم، وأن سكنى المدينة كان واجباً لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ومواساته بالنفس. .(2).
والذي يبدو لي - والله أعلم - أن هذا الوجوب كان قاصراً على أهل مكة خاصة، وهو على الخيار لغيرهم. وذلك لأدلة منها:
1- إن الأحاديث الصحيحة كثيرة بشأن إنهاء الهجرة مع فتح مكة. فقد قال صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة :لا هجرة ولكن جهاد ونية" (3)، وفي حديث عائشة أنه قال: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية" (4) وهذا يشير إلى أن إنهاء الهجرة كان ذا ارتباط مكاني بفتح مكة، ولم يكن مرتبطاً بأمر آخر، فلما فتحت مكة انتهت الهجرة.
2- كانت مكة بعد هجرته صلى الله عليه وسلم عاصمة الشرك. والعرب كلها تنتظر ما يؤول إليه أمرها، وبمقدار ما يتقلص نفوذ مكة بهجرة المسلمين منها بمقدار ما يزداد نفوذ المدينة وقوتها. ولذلك كانت هجرة المسلم واجبة.
إن وجود المسلم في مكة بعد إسلامه يعني تكثير سواد المشركين يقابله في الوقت نفسه نقص عدد المسلمين فرداً، إذ لو انتقل إلى المدينة لزاد عددهم، وهذا يعني أن المسلمين خسروا فردين ببقاء هذا المسلم في مكة، مما يشكل قوة لها ويؤخر موعد سقوطها وفتحها.
3- جاء في صحيح مسلم، عن بريدة بن الحصيب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه: ". . وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن ما أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم، ثم أدعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين. . " (1).
هذا يدل بوضوح على أن الأمر لم يكن عاماً بشأن جميع الناس، وأن غير أهل مكة كانوا على الخيار كما هو نص حديث مسلم.
4- أخرج ابن جرير عن خالد بن الوليد عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنهما قال: (خرجت من أهلي وأريد الإسلام، فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فصفت في آخر الصفوف فصليت بصلاتهم، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة انتهى إلي وأنا في آخر الصفوف. فقال: ما حاجتك؟ قلت: الإسلام، قال: هو خير لك، قال: وتهاجر؟ قلت نعم، قال: هجرة البادي أو هجرة الباني؟ قلت: أيتها خير؟ قال: هجرة الباتي، قالك وهجرة الباني أن تثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهجرة البادي أن يرجع إلى باديته. . ) (2).
وفي طبقات ابن سعد: قال عقبة بن عامر: (بلغني قدوم النبي صلى الله عليه وسلم وأنا في غنيمة لي، فرفضتها ثم أتيته فقلت: يا رسول الله جئت أبايعك، فقال: "بيعة عربية تريد أو بيعة هجرة؟" قال: فبايعته وأقمت) (3).
وبهذا يتأكد أن الإلزام كان خاصاً بأهل مكة.
وانتقل المسلمون إلى المدينة، ولعل الحكمة من ذلك هي توسيع القاعدة التي كان من مهماتها حمل الإسلام إلى الناس، وذلك لا يكون إلا بملازمة النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الفترة وتنفيذ أوامره، وقد مر معنا قبل قليل قول القاضي عياض "وإن سكنى المدينة كان واجباً لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ومواساته بالنفس".
قال الخطابي: "ثم افترضت [الهجرة] لما هاجر إلى المدينة إلى حضرته للقتال معه وتعلم شرائع الدين. . " (1).
المراجع
- سورة الأنفال: الآية 30.
- سيرة ابن هشام 1/ 499.
- سيرة ابن هشام 1/ 477
- عن تفسير ابن كثير في تفسير الآية رقم (100) من سورة النساء.
- سورة النساء: الآية 97- 98.
- فصلت القول عن هذه الحادثة في كتاب (من معين السيرة) الطبعة الثالثة ص 237 وانظر سيرة ابن هشام 1/ 641.
- سورة الأنفال: الآية 72.
- فتح الباري 7/ 267.
- رواه البخاري برقم 3188 ومسلم برقم 1353.
- رواه البخاري برقم 2510 ومسلم برقم 1864.
- رواه مسلم برقم 1731.
- حياة الصحابة للكاندهلوي 1/ 365.
- طبقات ابن سعد 4/ 343.
- فتح الباري 7/ 229.