1. المقالات
  2. السِّيرَةُ النَّبويَّةُ (تَربِيةُ أمَّةٍ وَبنَاءُ دَوْلَةٍ)
  3. نهاية دور الصفة

نهاية دور الصفة

الكاتب : صالح أحمد الشامي


إيضاح وبيان:

إن الإنسان ليعجب وهو يقرأ بعض الأحاديث التي تصف فقر أهل الصفة، ويتساءل كيف استطاعوا الصبر على ذلك؟

وقبل الإجابة أحب أن أنوه ببعض الأمور التي قد تغيب عن ذهن القارئ الكريم:

1- صفة ليست مكان إقامة دائمة، فالذين وجدوا فيها في يوم، ربما لم يكونوا فيها في اليوم الذي قبله، أو ربما لن يستمروا فيها إلى اليوم الذي يليه. وهذا يعني أن تلك الشدة كانت مؤقتة كمحطة في طريق المسافر ريثما يستقر، وهذه أمور يتحملها الناس عادة.

2- هذه الحال من الشدة ليست جديدة على حياة الفرد العربي، الذي تعود على قسوة الجوع في كثير من أوقاته، بل كان في بعض الأحيان يبلغ من شدته أن مسمى الجوع لا ينطبق عليه، وهذا ما قاله المغيرة بن شعبة ليزدجرد في مقابلته له قبل معركة القادسية، قال: فأما ما ذكرت من سوء الحال،     فما كان أسوأ حالاً منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان. . ونرى ذلك طعامنا. . (1).

وإذن فالعرب قد تعودوا قسوة العيش وشدته، فليس هذا الوضع جديداً عليهم.

3- إن كثيراً من الأحاديث المتعلقة بالصفة هي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، الذي كان أكثر الناس - فيما يبدو - مكوثاً في الصفة، وهذه الأحاديث ليست كلها لأناس بعينهم، لأنها تتحدث عن الصفة في أوقات مختلفة، ومعنى هذا أن ما أشار إليه حديث ما، من شدة العيش في الصفة، لا ينطبق على جميع من انتسب إليها، بل يتعلق بالفئة التي كانت وقتئذ. . وإذا كانت هذه الشدة المذكورة في الأحاديث موزعة على أناس عاشوا في أوقات مختلفة فذلك أمر محتمل.

يضاف إلى ذلك أن أبا هريرة قد طال مكثه في الصفة - فيما نعتقد - رغبة منه لا اضطراراً، فقد جاء إلى المدينة في وقت متأخر، في العام السابع بعد فتح خيبر. . وأحب أن يلازم الرسول صلى الله عليه وسلم فيعوض ما فاته من الوقت، حرصاً منه على سماع أكبر قدر ممكن من حديثه صلى الله عليه وسلم ومعرفة أحواله وتبركاً بخدمته صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يتوفر له إلا إذا كان قريباً من بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت الصفة هي المكان الوحيد الذي يؤمن له ذلك.

ولنستمع إليه يوضح لنا ذلك:

قال أبو هريرة: (إِنَّكُمْ تَقُولُونَ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُونَ مَا بَالُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ صَفْقٌ بِالْأَسْوَاقِ وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا وَكَانَ يَشْغَلُ إِخْوَتِي مِنْ الْأَنْصَارِ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا مِنْ مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ أَعِي حِينَ يَنْسَوْنَ) (1).

وهكذا يوضح رضي الله عنه أنه فعل ذلك رغبة منه في ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم ثم إن أبا هريرة كان له سكن في المدينة، وهو المكان الذي تسكنه أمه، والتي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها بالهداية (2).

ثم إن أبا هريرة لم  يكن فقيراً معدماً، في أول يوم قدم فيه على النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر أسهم له صلى الله عليه وسلم من الغنيمة. . كما أنه قدم كان معه عبد يخدمه كما ورد في الصحيح.. (3) وإذن فالذي أفقره هو إيثاره ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم واستماع أحاديثه. . وكان يستطيع الاستغناء عن الصفة لو أراد. . نقول بعد هذا:

إن الصحابة الذين مروا بالصفة في يوم من أيامهم فمكثوا فيها بعض الوقت كانوا يحتسبون ذلك عند الله تعالى، فهذا الجوع كان في سبيل الله تعالى، ومن أجل العقيدة التي يحملونها. ولعل الجوع هو أقل ما يقدم. .

ثم إن قدوتهم - الرسول صلى الله عليه وسلم - لم يكن أحسن حالاً منهم، وهم يعلمون حقيقة عيشه، فهم على مقربة منه، لا يفصلهم عن بابه إلا بضع خطوات، وإذا كان صلى الله عليه وسلم يجوع وهو رسول الله، فما بالهم لا يصبرون أنفسهم ولهم فيه الأسوة كل الأسوة؟!.

نهاية دور الصفة:

ليس هناك نص - فيما أعلم - يحدد التاريخ الذي انتهى فيه دور الصفة كدار ضيافة مؤقتة، اللهم سوى ما جاء عند ابن سعد من قوله: "حتى جاء الله بالغنى" (1) وهذا القول وما شابهه، لا يحدد وقتاً معيناً.

وكان يغلب على ظني أن دورها انتهى بفتح مكة، ذلك أن المصدر الرئيسي لروادها هم المهاجرون، وقد أنهى فتح مكة الهجرة فقال صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح"، لكني وجدت بعد ذلك نصاً يدل على استمرارها بعد الفتح. .

فقد أخرج ابن عساكر (1/ 105) عن ابن عباس قال: (جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خروجه من الطائف بستة أشهر، ثم أمره الله بغزوة تبوك، وهي التي ذكر الله في ساعة العسرة، وذلك في حر شديد، وقد كثر النفاق، وكثر أصحاب الصفة. .) (2).

ولعل كثرة أصحاب الصفة في تبوك كان نتيجة لتجمع القبائل حول المدينة للإنطلاق إلى تبوك، وهذا هو المرجح، ولم يكن كما سبق ناتجاً عن الهجرة.

ومهما يكن من أمر فقد استمرت الصفنة حتى بعد الفتح إذن، حتى جاء الله بالغنى كما قال ابن سعد.

وربما كان الغنى هو المال الذي ورد إلى المدينة من جزية البحرين، فقد كان مالاً عظيماً. . (1) وقد وزعه صلى الله عليه وسلم بكامله، ولم نجد لأهل الصفة ذكر في توزيعه، مما يدل على أن الصفة كانت خالية يومئذ وقد كان وصول هذا المال قبل حجة الوداع بقليل.

وأما عدد أصحاب الصفة، فليس بين أيدينا إحصاء دقيق لذلك، وإنما هي أقوال مبناها على التخمين، فقال بعضهم: هم أربعمائة، وقال أبو عبدالرحمن السلمي: هم نحو من ستمائة أو سبعمائة. .

وكانوا - كما قال ابن تيمية - يقلون تارة ويكثرون أخرى، فتارة يكونون عشرة أو أقل، وتارة يكون عشرين وثلاثين وأكثر، وتارة يكونون ستين وسبعين (2).

المراجع

  1. سورة البقرة: الآية 273.
  2.  المسند 1/ 101.
  3.  المسند 5/ 252.
  4.  البداية والنهاية لابن كثير 7/ 42.
  5. رواه البخاري برقم 2047 واللفظ له، ومسلم برقم 2492.
  6. جاء في الحديث الذي رواه مسلم برقم 2491 ما خلاصته: أن أبا هريرة كان يدعو أمه إلى الإسلام وهي مشركة، فدعاها يوماً فأسمعته في النبي صلى الله عليه وسلم ما يكره، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي وطلب منه الدعاء لها، وبعد الدعاء رجع إليها فوجدها قد أسلمت..
  7. رواه البخاري برقم 2530.
  8. طبقات ابن سعد 1/ 255.
  9. حياة الصحابة للكاندهلوي 1/ 417


المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day