1. المقالات
  2. السِّيرَةُ النَّبويَّةُ (تَربِيةُ أمَّةٍ وَبنَاءُ دَوْلَةٍ)
  3. حركة الدعوة

حركة الدعوة

الكاتب : صالح أحمد الشامي

الفصل الثالث

حركة الدعوة    في المرحلة الثانية


لا شك بأن انتصار المسلمين في بدر كان له أثره الكبير في المدينة، وإن بعض المشركين من الأوس والخزرج قد أعلنوا إسلامهم إيماناً وعقيدة وتصديقاً ولكن بعضهم الآخر تظاهر بالإسلام وهم الذين عرفوا فيما بعد بالمنافقين.

ويحسن بنا أن نعطي صورة عن النفاق في هذه الفترة من الزمن.

النفاق:

ظل بعض الأوس والخزرج على شركهم بعد الهجرة المباركة، وقد امتنع بعض هؤلاء عن الإسلام بدافع الكبر، وقد كان لهم مكانتهم في قومهم. . وقد رأينا قصة واحد منهم وهو عبدالله بن أبي بن سلول، وكيف كان موقفه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. .

ولما كانت بدر رأوا أن الأمر يسير في صالح المؤمنين، وأنهم إذا ظلوا على شركهم سوف يفقدون مكانتهم في قومهم، عندها (قال ابن أبي بن سلول، ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه، فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأسلموا) (1).

لم يكن أحد يدري أن إسلامهم لم يكن إسلاماً حقيقياً، وإنما كان تظاهراً بالإسلام، حتى مرت الأحداث فأوضحت ذلك.

كان أول ذلك حين حاصر النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع من اليهود ونزلوا على حكمه فقام إليه عبدالله بن أبي فقال: أحسن في موالي. . فأعرض عنه. . فأدخل يديه في جيب درع رسول الله، فقال له أرسلني وغضب حتى رأوا لوجهه صلى الله عليه وسلم ظللاً. ثم قال: "ويحك أرسلني"، قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي. . فقال صلى الله عليه وسلم: "هم لك".

هذه الصورة من الإلحاح على الرسول صلى الله عليه وسلم والأخذ بثوبه لم يحدث أن فعلها صحابي من قبل ولا من بعد، وهي تدل على عدم الاحترام والتقدير. .

ولما كان يوم أحد وخرج صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه. . فلما كانوا بين المدينة وأحد رجع عبدالله بثلث الناس. . وقال: ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس ورجع بمن تبعه. وحاول عبدالله بن عمرو بن حرام إقناعهم بالعدول عن رجوعهم ولكنهم استعصوا عليه. .

وهذه الحادثة هي التي كشفت أمر عبدالله ومن معه، فقد كان قبل أحد - حفاظاً منه على مكانته في قومه - إذا كان يوم الجمعة وجلس صلى الله عليه وسلم ليخطب، قام عبدالله فقال: أيها الناس، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم أكرمكم الله وأعزكم به، فانصروه وعزروه، واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس.

فلما كان يوم الجمعة بعد أحد، قام يفعل ما كان يفعله، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه، وقالوا: اجلس، أي عدو الله، لست لذلك بأهل، وقد صنعت ما صنعت. فخرج يتخطى رقاب الناس. .

والذي يبدو: أنه لم يكن جميع الذين رجعوا معه من المنافقين، وإنما كانوا جميعاً من المسلمين الجدد الذين أسلموا بعد بدر، وكان بعضهم لا يعرف ما ينبغي عليه تجاه النبي صلى الله عليه وسلم من الطاعة والتوقير. . ولكنهم لما اكتشفوا انحراف عبدالله بن أبي. . وذلك بعد نزول الآيات في فضح أمره. . عادوا إلى الصواب. . بينما استمر أتباعه على سيرتهم. .

وقد كانت مواقفهم بعد ذلك تنطلق من منطق الكفر لا من منطق الإيمان، فلما حاصر صلى الله عليه وسلم بني النضير، أرسل إليهم عبدالله بن أبي: أن أثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم. .

وفي يوم الخندق، والمسلمون في الموقف الحرج، كان المنافقون يشككون في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم. . وقد فصلت سورة الأحزاب موقفهم السيئ وبينت ما كانت تكنه نفوسهم. .

ولم يتركوا بعد ذلك مناسبة للنيل من الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا وفعلوها. . مما يطول ذكره. .

هذا المسلك المنحرف من المنافقين قد كلف الدعوة جهداً كبيراً، يبذل في غير طائل، سوى الحفاظ على وحدة صف المؤمنين، وعدم إتاحة الفرصة للمنافقين لإيجاد الثغرات، وخلخلة الصف.

وكمثال على ذلك. نسوق ما حدث في غزوة بني المصطلق:

بعد انتهاء الغزوة، وفي طريق العودة، اختصر غلام لعمر بن الخطاب مع غلام لبني عوف من الخزرج، فاقتتلا، فصرخ غلام بني عوف: يا معشر الأنصار، وصرخ الآخر: يا معشر المهاجرين، فغضب عبدالله بن أبي بن سلول، وعنده رهط من قومه فيهم: زيد بن أرقم، غلام حدث، فقال:

أوقد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب (2) قريش إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.

ثم أقبل على من حضره من قومه فقال لهم:

هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم.


فسمع ذلك زيد بن أرقم، فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فكيف يا عمر إذا تحدث الناس إن محمداً يقتل أصحابه لا ولكن أذن بالرحيل"، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها فارتحل الناس.

وجاء عبدالله بن أبي يعتذر ويحلف أنه ما قال. . وقال بعض الأنصار، عسى أن يكون الغلام قد أوهم. .

وجاء أسيد بن حضير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحياه بتحية النبوة، ثم قال: يا نبي الله، والله لقد رحت في ساعة منكرة، ما كنت تروح في مثلها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟" قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: "عبدالله بن أبي"، قال: وما قال؟ قال: "زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل". قال: فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل، وأنت العزيز. .

ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياماً.

وإنما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس. . ونزلت سورة "المنافقون" تبين صدق زيد بن أرقم، ومما جاء فيها

قوله تعالى:

{هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا ۗ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَلَٰكِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلْأَعَزُّ مِنْهَا ٱلْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (1).

سورة المنافقون: الآيتان 7- 8.

المراجع

  1. رواه البخاري برقم 4566.
  2. كان لقباً للمهاجرين، لقبهم به المشركون، بسبب ما كانوا يلبسونه من الأزر الغليظة.

المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day