1. المقالات
  2. من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
  3. مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ

مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ

الكاتب : د. محمد بكر إسماعيل
4374 2018/10/17 2024/12/18
المقال مترجم الى : English हिन्दी اردو

 

 

عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ  رضي الله عنه قال: قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ".

 

كان النبي صلى الله عليه وسلم يولي الشباب عناية خاصة؛ لأنهم هم الطاقة الفعالة والقوة المحركة، والعدة في الحرب والسلم، وهم رجال الحاضر والمستقبل، عليهم تعقد الآمال، وإليهم تسند أهم الأعمال، وبهم تناط كثير من الواجبات الدينية والدنيوية.

 

فكان صلى الله عليه وسلم يلتقي بهم في مواطن كثيرة ويتحدث معهم حديث من يحب لمن يحب – حديثاً عطوفاً حانياً، أعظم أثراً وأعمق تأثيراً من حديث الوالد لولده، فهو صلى الله عليه وسلم أرحم بهم وبكل مسلم – بوجه عام – من أنفسهم على أنفسهم.

 

قال تعالى: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } (سورة الأحزاب:6).

 

وكان يتعرف على مشكلاتهم ويسألهم عما يجيش في نفوسهم من رغبة ورهبة، وكانوا يبادلونه حباُ بحب، ويتقربون إليه يناجونه مناجاة ملؤها الوفاء والتقدير، ويبثون إليه ما يجدونه في أنفسهم من فرح أو حرج، فيوجههم إلى ما فيه الخير لهم ولأمتهم في الدنيا والآخرة.

 

ومن توجيهاته الحكيمة أمره لهم بالزواج لما فيه من صيانة للدين والعرض وتعفف عن الفواحش وما يؤدي إليها فيقول: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ...إلخ".

 

والمراد بالمعشر: الجماعة، وهو نداء يشعر بالحب والتقدير، ويوحي بأن ما بعده من الأوامر مهم ينبغي الالتفات إليه والأخذ به.

 

والشباب: جمع شاب، والشبيبة هي القوة والفتوة والعنفوان.

ويظل المرء شاباً ما دام قوياً ممتلئاً حيوية ونشاطاً، يحدوه الأمل في طلب ما ينفعه في دينه ودنياه، لا يمل العمل ولا يكل عنه ولو بلغ الستين من عمره.

 

ولكن العرب يسمون الرجل شاباً أو غلاماً إلى الأربعين، فإذا جاوزها بقليل سمى كهلاً.

 

ويستأنس لهذا وذاك بآيتين من كتاب الله تعالى.

 

الأولى قوله جل شأنه: { وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } (سورة الأحقاف: 15).

 

وبلوغ الأشد هو بداية الشباب ونهايته بلوغ الأربعين.

الثانية قوله جل شأنه حكاية عن عيسى ابن مريم عليه السلام: { وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ } (سورة آل عمران: 46).

 

والمعنى: ويكلم الناس في السن الذي يبعث فيه الأنبياء وهو سن الأربعين بما كلمهم به وهو في المهد فيذكرهم به، فيعلموا أنه هو الرسول حقاً.

 

وقد حكى الله كلامه في المهد فقال سبحانه: { قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِىَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } (سورة مريم: 30) إلى قوله جل شأنه: { وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } (سورة مريم:33).

 

فهاتان الآيتان ليستا دليلاً على أن سن الشباب يتوقف عند سن الأربعين ولكنه استئناس فحسب، والاستئناس استشهاد لا يبلغ مبلغ الدليل في الاحتجاج.

 

والرسول صلى الله عليه وسلم إنما يخاطب من استطاع الباءة، وهي القدرة على المعاشرة الزوجية والقيام بنفقات الزواج ومؤنه، فهذه هي الباءة بوجه عام، وإن كان العرب يطلقونها على القدرة الجنسية بوجه خاص.

 

وقوله صلى الله عليه وسلم: "فليتزوج" أمر ترغيب ونصح وتوجيه، ولكنه يحتمل الإيجاب أيضاً إذا اشتدت الحاجة إلى الزواج، بأن خاف المسلم على نفسه من الوقوع في الزنا أو مقدماته ولم يستطع الصبر على البعد عن النساء، وقد ذكرت في كتابي "الفقه الواضح" أن الزواج من الأمور التي تعتريها الأحكام الخمسة.

 

وهي: الوجوب، والندب، والحرمة، والكراهة، والإباحة.

 

فهو يختلف باختلاف الأحوال، فتارة يكون واجباً، وتارة يكون مندوباً، وتارة يكون مكروهاً، وتارة يكون حراماً، والأصل فيه الإباحة، ولا ينتقل حكمه إلى الاستحباب أو الوجوب أو الكراهية أو الحرمة إلا بسبب يقتضيه.

 

فيستحب الزواج في حق من وجد القدرة على الإنفاق وكانت لديه القدرة أيضاً على الجماع، ولكن لا يخاف على نفسه من الوقوع في الزنا أو مقدماته، وإنما يستحب الزواج لما فيه من المنافع الدنيوية والأخروية، كما هو معلوم.

 

ويجب الزواج في حق من وجد القدرة على الجماع والنفقة وخاف على نفسه من الوقوع في الزنا أو مقدماته – كما أشرنا – حماية لدينه وصيانة لعرضه، ولا شك أن حماية الدين وصيانة العرض من أهم الواجبات، فإذا كان الرجل لا يستطيع حماية دينه وصيانة عرضه إلا بالزواج – كان الزواج في حقه واجباً.

 

ويحرم الزواج في حق من فقد القدرة على الجماع والنفقة، وانعدم الباعث عليه، والدافع إليه، وخاف إن تزوج أن يقع في المحظور، كان يجد نفسه مضطراً إلى كسب رزقه من طريق غير مشروع، فإنه يجب عليه في هذه الحالة أن لا يقدم على الزواج صيانة لدينه، حتى تتوفر أسبابه أو يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

 

ويكره الزواج في حق من فقد القدرة على النفقة وهو قادر على الجماع، ولا يخشى على نفسه من الوقوع في الزنا أو مقدماته، ويحتسب له أن يصبر حتى يجد النفقة على الزواج لقوله تعالى: { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } (سورة النور: 33).

 

وكذلك يكره الزواج في حق من وجد النفقة ولكن فقد القدرة على الجماع.

 

وإنما قلنا يكره ولم نقل يحرم في حقه، لأنه قج يكون محتاجاً إليه للمؤانسة والخدمة ، وتدبير المنزل، وغير ذلك من شئون الحياة.

 

ويجب عليه إن أراد الزواج أن يخبر من يخطبها لنفسه بحاله فإن رضيت به زوجاً على ما به فعلى بركة الله تعالى.

*     *     *

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أهداف الزواج ومقاصده بعد الأمر به فقال: "فإنه أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ".

 

وهذا المقصد هو أبرز المقاصد التي يهدف إليها من يرغب في الزواج، ولا يمنع ذكر هذا المقصد من المقاصد الأخرى التي لا تكاد تحصى، فالزواج سنة من سنن الفطرة، وضرورة من ضروات الحياة، به تحفظ الأنساب والأحساب، وبه تصان الأعراض والحرمات، وبه تتوثق الصلات بين الأفراد والأسر والمجتمعات قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } (سورة الفرقان: 54).

 

قال تعالى: { وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } (سورة الروم: 21).

 

أي ومن دلائل قدرته وعظيم حكمته، أن خلق لكل ذكر أنثاه، وجعل كلاً منهما ميالاً إلى الآخر بطبعه، راغباً في الاقتران به والعيش معه، تجمعهما رابطة المودة والرحمة.

 

وهذا الميل الفطري، هو ما يعرف بالسكون النفسي والجنسي، وكلاهما مراد بقوله: { لِتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا }.

 

فالأول يشبع الناحية الروحية لدى كل منهما، والثاني يشبع الناحية الجسدية.

 

ولا شك أن السكون النفسي أسمى وأجل من السكون الجنسي، لهذا ينبغي أن يجعله المرء هدفه الأول عند الاختيار؛ فإن المتعة الجسدية بجانب المتعة الروحية شيء لا يذكر، وإن المتعة الجسدية لا تتحقق ولا تكتمل إلا إذا كان هناك بين الزوجين حب متبادل، وائتلاف يمنع التنافر والاختلاف.

 

ولا أجد أسعد حظاً ممن يأوى إلى بيت به زوجة صالحة تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، وتحفظ عرضه وماله، وتشاركه آلامه وآماله.

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ عز وجل خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ".

 

ومعنى أبرته: فعلت ما أقسم عليها أن تفعله وتركت ما أقسم عليها أن تتركه.

 

ومعنى نصحته في نفسه: حافظت على سره وعرضه وحرمته، ولم تخنه في شيء أثناء غيبته.

 

ولو تمادينا في ذكر فضائل الزواج ومقاصده العامة ما وسعتنا مجلدات.

 

وغرضنا هنا دراسة هذه الوصية العظيمة وبيان ما تشتمله من الأحكام الشرعية، والحقائق العلمية.

*     *     *

والطرف الثاني من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ".

وبديهي أن يتجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الفريق الذي يعجز عن نفقات الزواج فيوصيه بما ينبغي أن يفعله حتى يغنيه الله من فضله بعد أن أوصي بالزواج أولئك القادرين عليه فقال: " وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ – يعني الباءة - فَعَلَيه بِالصَّوْمِ" أي فليلزمه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وليتخذه سلاحاً يقاوم به شهوته وهواه؛ "فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ" أي وقاية من هيجان الشهوة.

 

والوجاء – بكسر الواو – قطع الخصية، وهو هنا كناية عن إضعاف الشهوة إلى الحد الذي لا تجعله ينظر إلى النساء ولا يشغل نفسه بالتفكير فيهن.

 

وقد قال لي بعض الشباب: إن الصيام يزيد في الشهوة ولا ينقص منها، ويدفع الرجل إلى الرغبة الملحة في المعاشرة الجنسية، فكيف يوصي النبي صلى الله عليه وسلم به والحال كما وصفت؟

 

قلت: هذا في أول أيام الصيام ولا يلبث أن يجد المرء فيه بعد ذلك قدرة عجيبة على كبح جماح النفس من الزنا وغيره من المحرمات، فالصوم يقوي الروح حتى تتلاشى أمامها القوة الجسدية، ويشد من العزم حتى يتغلب المرء على نفسه بسهولة فلا يجعلها ترعى حيث شاءت هنا وهناك.

 

وذلك لأن الصوم عبادة يتعلم منها المسلم الصبر على المكاره، ويتعود على الحرمان مما يحب حتى يصير معصوماً من السوء بطبعه إلى حد كبير، فالتعفف عن الأكل والشرب يحملك ولا بد على التعفف عن الشهوات الجامحة والمنكرات الفاحشة، فأنعم بها من وصية طيبة جاءتك ممن لا ينطق عن الهوى

*     *     *

 

المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day