1. المقالات
  2. السِّيرَةُ النَّبويَّةُ (تَربِيةُ أمَّةٍ وَبنَاءُ دَوْلَةٍ)
  3. الهجرة إلى الحبشة

الهجرة إلى الحبشة

الكاتب : صالح أحمد الشامي

الهجرة إلى الحبشة

ملخص الحادثة:

هناك هجرتان إلى الحبشة، كانت الأولى في شهر رجب من السنة الخامسة من البعثة، وكان عدد المهاجرين فيها عشرة رجال وأربع نسوة - وهم الذين ذكرتهم رواية ابن إسحاق-. وقد عادوا إلى مكة في شهر شوال من العام نفسه، وسبب ذلك سماعهم بخبر كاذب مفاده أن أهل مكة قد أسلموا. 

ثم كانت الهجرة الثانية بعد ذلك بسبب اشتداد الضغط على المسلمين، وكان عدد المهاجرين فيها ثلاثة - أو إثنين - وثمانين رجلاً وثماني عشر أمرأة.

وقد رجع قسم من هؤلاء إلى مكة وعددهم ثلاثة وثلاثون رجلاُ، وذلك عند سماعهم بإذن النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، وقد هاجروا منها إلى المدينة، بعد أن حبس بعضهم بمكة، ومات إثنان منهم فيها. وأما بقية المهاجرين فقد استمروا على إقامتهم في الحبشة حتى عادوا منها إلى المدينة مباشرة في العام السابع من الهجرة وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب (1).

أسباب الهجرة:

قال ابن إسحاق: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية - بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب - وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد. وهي أرض صدق، حتى يجعل الله، لكم فرجاً مما أنتم فيه". فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام (1).

وليس من خلاف في أن هذه الهجرة كانت بسبب الظلم الذي وقع على المسلمين. قال تعالى:

{وَٱلَّذِينَ هَاجَرُوا فِى ٱللَّهِ مِنۢ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ ٱلْءَاخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ٱلَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2).

قال الأستاذ محمد عزة دروزة: وفي الآيتين صراحة بأن الهجرة في الله إنما كانت بعد الظلم الذي وقع على المهاجرين، كما أنهما احتوتا بشرى بعناية الله بهم وبتبوئهم في هجرتهم مبوأ حسناً، وتنويهاً بما كان من صبرهم واعتمادهم على الله (3).

لم يهاجر الفقراء:

عندما نقرأ أسماء المهاجرين إلى الحبشة، في الهجرتين، لا نجد بلالاً، ولا صهيباً، ولا خباباً، وهناك شك في هجرة عمار، والراجح أنه لم يهاجر.

إن هؤلاء ومن كان على شاكلتهم لم يهاجروا، وهم أحوج إلى الفرار بدينهم من غيرهم، لأنه ليس لهم من يحميهم. . . إنها مسألة تلفت النظر؟!.

قال سيد قطب - رحمه الله -: "والقول بأنهم هاجروا إليها لمجرد النجاة بأنفسهم، لا يستند إلى قرائن قوية، فلو كان الأمر كذلك لهاجر إذن أقل الناس جاهاً وقوة ومنعة من المسلمين، غير أن الأمر كان على الضد من هذا، فالموالي المستضعفون الذين كان ينصب عليهم معظم الاضطهاد والتعذيب والفتنة لم يهاجروا، إنما هاجر رجال ذوو عصيات. . وربما كان وراء هذه الهجرة أسباب أخرى كإثارة هزة في أوساط البيوت الكبير قريش، وأبناؤها الكرام المكرمون يهاجرون بعقيدتهم. . " (1).

ويعلل الأستاذ دروزة هذا الأمر فيقول: "وقد تبادر لنا تعليلاً لذلك: أن ضغط زعماء قريش كان أكثر شدة على أبناء أسرهم لأنهم تحسبوا من عواقب إسلامهم بالنسبة لعامة الناس وسائر شباب الأسر، في حين أنه لم يكن ما يخشونه من مثل ذلك من المساكين والأرقاء والفقراء والغرباء، وهذه صورة مخالفة لما قد يكون في الأذهان" (2).

إن ما ذهب إليه سيد - رحمه الله - رأي له وجهته. أما ما ذهب إليه دروزة - رحمه الله - فإن النصوص التي بين أيدينا في السيرة تنفي ذلك وكلها متفقة على أن الضعفاء والموالي هم الذين تحملوا أعظم العذاب.

والذي أراه: أن هذه الهجرة كانت توطئة نفسية وعملية لهؤلاء على مغادرة الوطن. الأمر الذي كانوا بحاجة إلى التدرب عليه، بينما لم يكن لأولئك الموالي حاجة بذلك فهم ليسوا أهل مكة. ونؤيد ذلك بأن المهاجرين في الهجرة الأولى رجعوا لمجرد خبر كاذب وما ذاك إلا لرغبتهم في الرجوع إلى وطنهم، وكنت قد سجلت هذا الرأي مفصلاً في (من معين السيرة) ومما قلته:

"إن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم [الموالي والضعفاء] عذبوا حتى مل المعذبون ورأوا أن لا فائدة من ذلك، وكأن التعذيب كان لقاحاً مضاداً لجرثوم المرض- الذي هو الخوف - فما عادوا يهتمون، إن كل ما لدى قريش من وسائل التنكيل قد خبروه وعرفته أجسادهم. . . 

"إن الذين بعث إليهم وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤثر في سلوكهم ونفسياتهم أمران: الارتباط بالقوم ممثلاً بالعشيرة والقبيلة، والارتباط بالأرض، وهما أمران يزاحمان في النفس معاني التوحيد، وكان لا  بد من التخلص عملياً - وليس قولاً - من ذلك.

"وكان إعلان الإيمان تخلصاً من العصبية القبلية". .

"أما الارتباط بالأرض، فقد كانت مكة أم القرى، وكانت العاصمة الدينية للعرب قاطبة، وكان موسم الحج كل عام يؤكد هذه المكانة، فسكانها هم حماة الحرم. . وإذن فقد تحول الارتباط بهذه الأرض إلى مزايا نفسية واجتماعية جعلت سكانها أكثر وأكثر ارتباطاً بها". . 

"وكانت الهجرة هي التطبيق العملي لأولوية العقيدة، وترك الأرض - بكل ما تعنيه من وشائج ومصالح وارتباطات - في سبيلها، وكان لا بد أن يكون الدرس عملياً. ذلك أن الدروس النظرية في العقيدة غير مجدية".

"ولعل هذا يفسر لنا عدم ضرورة اشتراك بلال وأمثاله في تطبيق هذا الدرس، بينما كان غيرهم بحاجة إليه، مثلهم في ذلك مثل الأغنياء والفقراء، فإن الأغنياء هم الذين يعنيهم فقه الزكاة، وليس الأمر كذلك بالنسبة للفقراء" (1).

المراجع

  1. عن كتاب (أضواء على دراسة السيرة) للمؤلف. وفيه تحقيق كامل عن الهجرة إلى الحبشة، وبيان لكل الإشكالات التي أثيرت بسبب عودة المهاجرين مثل قصة الغرانيق وغيرها.
  2. سيرة ابن هشام 1/ 321.
  3. سورة النحل: الآيتان 41- 42 ومن المعلوم أن السورة مكية.
  4. سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم صورة مقتبسة من القرآن الكريم 1/ 262.
  5. في ظلال القرآن 1/ 29.
  6. سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، لدروزة 1/ 264.
  7.  كتاب (من معين السيرة) للمؤلف ص 86 - 90
المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day