1. المقالات
  2. السِّيرَةُ النَّبويَّةُ (تَربِيةُ أمَّةٍ وَبنَاءُ دَوْلَةٍ)
  3. الحركة الجهادية

الحركة الجهادية

الكاتب : صالح أحمد الشامي

تقرير مكانة الجهاد:

كانت سورة التوبة من آخر سورة القرآن الكريم نزولاً. وكان في جملة ما تحدثت عنه غزوة تبوك، التي كانت اللقاء الأول الذي يقوده صلى الله عليه وسلم بنفسه مع الروم والنصارى. .

أي إنه اللقاء الأول الذي يحمل هذه الدعوة إلى إطارها العالمي، ولذا فهي تقرر الأحكام النهائية في أمر الجهاد وبيان مكانته بين تعاليم الإسلام.

إن نشر الدعوة واجب، والجهاد لحملها وإيصالها إلى كل أرجاء الأرض واجب

{حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِ ۚ }

(1) وهذا يتطلب حركة جهادية دائمة لا تتوقف.

ومن هنا يأتي الأمر القرآني الكريم موجهاً إلى المؤمنين عامة، يطلب إليهم المشاركة الجادة ببذل الأموال والأنفس. .

قال تعالى:

{ٱنفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَٰهِدُوا بِأَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (2).

قرأ أبو طلحة سورة براءة فأتى على هذه الآية:

{ٱنفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَٰهِدُوا بِأَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ }

فقال: أرى ربنا استنفرنا شيوخنا وشباباً، جهزوني يا بني، فقال بنوه: يرحمك الله، قد غزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمرحتى مات، فنحن نغزو عنط فأبى، فركب البحر. .

وكان أبو أيوب يقول:

قال الله تعالى:

{ٱنفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}

فلا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً.

وقال ابن جرير: حدثني حيان بن زيد الشرعي قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو، وكان والياً على حمص قبل الأفسوس، فرأيت شخياً كبيراً هماً قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته، فيمن أغار، فأقبلت إليه فقلت: يا عم لقد أعذر الله إليك، قال: فرفع حاجبيه فقال: يا ابن أخي، استنفرنا الله خفافاً وثقالاً. . (3).

وبهذا الإيمان سارع المخاطبون من المؤمنين إلى تلبية النداء، وإنه لما يؤكد عموم هذا النداء، أن أحد المخلفين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر كان شيخاً كبيراً وهو هلال بن أمية، كما ورد ذلك على لسان زوجته بقولها: إن هلال بن أمية شيخ ضائع. .كما في البخاري، ومع ذلم لم يعذر.

ولماذا نبعد النجعة؟ فقد كان عمر الرسول صلى الله عليه وسلم يوم قاد غزوة تبوك، قد تجاوز الحادية والستين.

وهكذا يستقر في خلد كل مسلم أنه لا بد له من المشاركة في الجهاد استكمالاً لمقتضيات إيمانه.

جاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم:

"مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ " (4).

وهذا يعني أن على كل فرد مسلم أن يسعى للمشاركة في الجهاد، ولا ينبغي له أن يموت دون هذه المشاركة، خلال حياته، وبهذا يصبح الجهاد من وجهة نظر الفرد فرض عين، ولذا ذهب الكثير من فقهاء الإسلام إلى اعتبار الجهاد الركن السادس من أركان الإسلام.

وهذا لا يعارض ما استقر عليه الحكم الفقهي من كون الجهاد - في الأحوال العادية - فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقي، فتلك نظرة تنطلق من الحكم على الجماعة ككل.

وفي الأحوال التي تحول فيها الموانع دون الفرد، فتمنعه من المشاركة فإن الإسلام بفتح له باباً للتعويض عن ذلك،

فقد ورد في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم:

"مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا" (5).

وهكذا يستقر الجهاد ركناً أساسياً من أركان التربية الإسلامية، لا يجوز بحال من الأحوال إغفاله أو غض النظر عنه، وقد هددت سورة التوبة الذين يتوانون في إقامة هذا الركن في حياتهم بالعذاب الأليم،

قال تعالى:

{إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْـئًا ۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ} (6)

قال صاحب الظلال رحمه الله، عند تفسير هذه الآية:

"والخطاب لقوم معينين في موقف معين، ولكنه عام في مدلوله لكل ذوي عقيدة في الله. والعذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الآخرة وحده، فهو كذلك عذاب الدنيا. عذاب الذلة التي تصيب القاعدين الجهاد والكفاح، والغلبة عليهم للأعداء، والحرمان من الخيرات واستغلالها المعادين، وهم مع ذلك كله

وجاء في صحيح مسلم عن أنس أن فتى من أسلم قال:

يا رسول الله، إني أريد الغزو وليس معي ما أتجهز به قال: "أئت فلان فإنه قد تجهز فمرض"، فأتاه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام ويقول: أعطني الذي تجهزت به، قال: يا فلانة أعطيه الذي كنت تجهزت به ولا تحبسين منه شيئاً، فوالله لا تحبسي منه شيئاً فيبارك لك فيه.

يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح والجهاد، ويقدمون على مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرام لو قدموا لها الفداء، وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل، فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه منها كفاح الأعداء. .".

وتعود سورة التوبة في أواخرها - وهي من آخر ما نزل، كما قلنا - لتذكر أن قضية الجهاد جزء من الالتزام الإيماني، ولا بد من الوفاء بهذا الالتزام، إذ هو بيعى في عنق كل مسلم عليه الوفاء بها. .

ذلك ما تقرره الآية التالية في قوله تعالى:

{إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ ۚ يُقَٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِيلِ وَٱلْقُرْءَانِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِ ۚ فَٱسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِى بَايَعْتُم بِهِۦ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ}  (7).

وقد آتت هذه التربية ثمارها، فوفى جيل الصحابة بعهده. . وتبعته الأجيال المؤمنة جيلاً بعد جيل. . وما انتشار الإسلام في أرجاء الأرض إلا الثمرة لهذا الوفاء وإذا أريد للإسلام أن يأخذ دوره مرة أخرى فلا بد من سلوك هذا الطريق في تربية الأجيال. .

المراجع

  1. سورة الأنفال: الآية 39.
  2. سورة التوبة: الآية 41.
  3. عن تفسير ابن كثير في تفسير الآية المذكورة.
  4. رواه مسلم برقم 1910 وأبو داود برقم 2502 وهو عند النسائي أيضاً.
  5. متفق عليه وهو عند مسلم برقم 1892.
  6. سورة التوبة: الآية 39.
  7. سورة التوبة: الآية 111.


المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day