البحث
الحق الثامن: الدعوة لدينه
من أهم حقوق النبيﷺنشر سنته وهديه ، وتبليغها للناس ،
وقد ثبت عنه أنه قال:
(ليبلغ الشاهد الغائب ، فإن الشاهد عسى أن يُبلغ من هو أوعى له منه)
[1]
، وقال:
بلغوا عني ولو آية.
[2]
وقد دعا رسول اللهﷺلمن حمل هذا اللـواء بقوله: نضر الله امرءًا سمع منا شيئًا فبلغه كما سمِعه ، فرب مبلغ أوعى من سامع[3].
ومن حقوق النبيﷺالحرص على إماتة البدع والضلالات المخالفة لأمره وهديه ، لأن البدع تهدم الدين ، وتخالف هدي النبيﷺ، بل هي زيادة في دين الإسلام ، وهي مردودة على صاحبها ، كما قال النبيﷺ: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[4].
فصل
والأدلة على فضل الدعوة إلى الله كثيرة جدا ، ليس المقام مقام استقصائها ، نكتفي منها بآية وثلاثة أحاديث ، وفيها كفاية لمن أراد الهداية
، أما الآية فقوله تعالى
[ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا]
، أي لا أحد أحسن قولا ممن دعا إلى الله.
قوله
[وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين]
(أي وهو في نفسه مهتد بما يقوله ، فنفعه لنفسه ولغــيره لازم ومتــعد ، وليس هو مــن الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه ، وينهون عن المنكر ويأتونه ، بل يأتمر بالخير ويترك الشر ، ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى ، وهذه عامة في كل من دعا إلى خير وهو في نفسه مهتد)[5].
وأما الأحاديث الثلاثة فأولهما
حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبيﷺأرسل علي بن أبي طالب لغزو اليهود في خيبر
، فأعطاه الراية فقال علي: يا رسول الله ، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: انفُذ على رِسلِك [6]حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه ، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم.
[7]
وأما الحديث الثاني على فضل الدعوة
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللهﷺقال:
من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ،
الحديث[8].
وأما الحديث الثالث فهو
حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبيﷺقال:
مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً ، فكان منها نقية قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعــشب الكــثير ، وكانــت منــها أجادب أمســكت الماء ، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصابت منها طائفة أخرى ، إنما هي قيعان ، لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعهُ ما بعثني الله به فعلم وعلَّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به
[9].
قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: قال القرطبي وغيره:
ضــرب النبيﷺلِما جــاء به من الــدين مثلا بالغـيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه ، وكذا كان حال الناس قبل مبعثه ، فكما أن الغيث يحيي البلد الميت ؛ فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت ، ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث ، فمنهم العالم العامل المعلم ، فهو بمنزلة الأرض الطيبة ؛ شربت فانتفعت في نفسها ، وانبتت فنفعت غيرها.
ومنهم الجامع للعلم ، المستغرق لزمانه فيه ، غير أنه لم يعمل بنوافله ، أو لم يتفقه فيما جمع ، لكنه أداه لغيره ، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به ، وهو المشار إليه بقوله (نضر الله امرأً سمع مقالتي فأداها كما سمعها).
ومنهم من يسمع العلم فلا يـحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره ، فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء ، التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها.
وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما ، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها ، والله أعلم.
فصل
والمبتدع لا يحب نشر السنة النبوية ، ويسعى لكتمانها ، قال ابن تيمية رحمه الله: ومن المعلوم أنك لا تجد أحداً ممن يرد نصوص الكتاب والسنة بقوله إلا وهو يبغض ما خالف قوله ، ويود أن تلك الآية لم تكن نَـزلت ، وأن ذلك الحديث لم يرِد ، ولو أمكنه كشط ذلك المصحف من قلبه لفعله.
قال بعض السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا خرجت حلاوة الحديث من قلبه.
وقيل عن بعض رؤوس الجهمية – إما بشر المريسي أو غيره - أنه قال: ليس شيء أنقض لقولنا من القرآن ، فأقِروا به في الظاهر ، ثم صرِّفوه بالتأويل.
ويقال إنه قال: إذا احتجوا عليكم بالحديث فغالطوهم بالتكذيب ، وإذا احتجوا بالآيات فغالطوهم بالتأويل.
ولهذا تجد الواحد من هؤلاء لا يحب تبليغ النصوص النبوية ، بل قد يختار كتمان ذلك والنهي عن إشاعته وتبليغه ، خلافاً لما أمر الله به ورسوله من التبليغ عنه ،
كما قال:
(ليبلغ الشاهد الغائب) ،
وقال:
(بلغوا عني ولو آية)
، وقال:
(نضر الله امرإٍ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).
وقد ذم الله في كتابه الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى ، وهؤلاء يختارون كتمان ما أنزله الله لأنه معارض لما يقولونه ،
وفيهم جاء الأثر المعروف عن عمر ، قال:
(إياكم وأصحاب الرأي ، فإنهم أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها ، فقالوا بالرأي ، فضلوا وأضلوا
[10].
فذَكر أنهم أعداء السنن.
وبالجملة ، فكل من أبغض شيئا من الكتاب والسنة ففيه من عداوة النبي بحسب ذلك ، وكذلك من أحب ذلك ففيه من الولاية بحسب ذلك ، قال عبد الله بن مسعود: لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن ، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله ، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله.
وأعــداء الأنبياء هم شياطين الإنــس والجــن ، وهؤلاء يــوحي بعــضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ، والزخرف هو الكلام المزين ، كما يزيَّن الشيء بالزخرف وهو المذهب ، وذلك غرور ، لأنه يغر المستمع ، والشبهات المعارضة لما جاءت به الرسل هي كلام مزخرف يغر المستمع ،
[ولتصغى إليه[11] أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة]
، فهؤلاء المعارضون لما جاءت به الرسل تَصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة كما رأيناه وجربناه[12].
المراجع
- رواه البخاري (67) ومسلم (1679) عن أبي بكرة رضي الله عنه.
- رواه البخاري (3461) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
- رواه ابن حبان (66) والترمذي (2657) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، وقال الترمذي: حسن صحيح.
- تقدم تخريجه.
- قاله ابن كثير في تفسير الآية.
- قوله (انفذ) أي امضِ ، وقوله (على رِسلِك) أي على مهلك. انظر «النهاية».
- رواه البخاري (4210) ومسلم (2406) ، قال ابن حجر رحمه الله: (حُـمْر النعم) بسكون الميم وبفتح النون والعين ، وهو من ألوان الإبل المحمودة ، قيل المراد خير لك من أن تكون لك فتتصدق بها ، وقيل تقتنيها وتملكها ، وكانت مما تتفاخر العرب بها. (باختصار).
- رواه مسلم (2674).
- رواه البخاري (79) ومسلم (2282).
- تقدم تخريجه.
- أي تصغي إلى كلامهم.
- «درء تعارض العقل والنقل» (5/217 – 220) ، باختصار يسير.