البحث
الايمان بالغيب
والإيمان بالغيب ركن من أركان هذه العقيدة.
يشمل الإيمان بوجود الملائكة وبوجود الجن. . والإيمان باليوم الآخر.
ولم يناقش القرآن المكي قضية من القضايا بالتفصيل الذي عرض فيه لأمر اليوم الآخر.
إنها قضية البعث بعد الموت.
وقضية الحساب والجزاء. .
وقضية الجنة والنار.
وقد أنكر المشركون القضية الأولى. . وبالتالي القضايا التي تتبعها، ولشدة تعنت المشركين وتكذيبهم باليوم الآخر، كثرت الآيات التي قررت وجود هذا اليوم وبرهنت عليه بألساليب متعددة كل واحد منها كان كافياً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وحكت لنا سورة يس جانباً من هذه الإنكار ومناقشته، فقالت:
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِىَ خَلْقَهُۥ ۖ قَالَ مَن يُحْىِ ٱلْعِظَٰمَ وَهِىَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِىٓ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. .} (1).
وبعد هذا البرهان البين كانت هناك نقلة أخرى للفت النظر إلى ما هو أكبر:
{أَوَلَيْسَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ۚ بَلَىٰ وَهُوَ ٱلْخَلَّٰقُ ٱلْعَلِيمُ إِنَّمَآ أَمْرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيْـًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ. .} (2).
وفي سورة ق ينقل القرآن الكريم قول الكافرين
{أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ۖ ذَٰلِكَ رَجْعٌۢ بَعِيدٌ}
ثم يكون الجواب بعد جولة في ملكوت السماوات والأرض.
{أَفَلَمْ يَنظُرُوٓا إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَٰهَا وَزَيَّنَّٰهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍۢ وَٱلْأَرْضَ مَدَدْنَٰهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَٰسِىَ وَأَنۢبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍۢ تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍۢ مُّنِيبٍۢ وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً مُّبَٰرَكًا فَأَنۢبَتْنَا بِهِۦ جَنَّٰتٍۢ وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ وَٱلنَّخْلَ بَاسِقَٰتٍۢ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ ۖ وَأَحْيَيْنَا بِهِۦ بَلْدَةً مَّيْتًا ۚ كَذَٰلِكَ ٱلْخُرُوجُ} (3).
وفي سورة القيامة يقول تعالى:
{لَآ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ وَلَآ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ ٱلْإِنسَٰنُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُۥ بَلَىٰ قَٰدِرِينَ عَلَىٰٓ أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَهُۥ} (1)
.
ولم يكتف القرآن الكريم بتقرير القضية الأولى قضية البعث. بل تناول يوم الحساب بتفصيل كبير وتناول ذكر الجزئيات فيه، حتى غدا القارئ للآيات وكأنه في ذلك اليوم، يسمع النقاش، وينظر إلى الأعضاء وهي تشهد على صاحبها. . وينظر إلى الكافر وهو يتمنى لو كان تراباً. .
وفيما بعد الحساب يكون الجزاء. . الجنة أو النار.
وتناول القرآن أيضاً وصف الجنة ونعيمها، كما تناول وصف النار وعذابها حتى باتت كل منهما تتراءى للإنسان حقيقة واقعة أمام ناظريه. .
إنها حقائق من عالم الغيب يقررها القرآن الكريم ليستكمل بها بناء العقيدة في نفس المسلم.
تلك هي الخطوط الكبرى لهذه العقيدة، التي تصدى لها القرآن المكي خلال ثلاثة عشر عاماً، ووقف عندها لا يتجاوزها، وكانت غايته تقريرها في النفوس بحيث تكون عقيدة ثابتة مستقرة، مبنية على الوعي والنظر والمعايشة. .
إن القرآن المكي وهو يؤكد على هذه القضية، إنما يؤكد على قيام تصور إسلامي كامل في نفس كل فرد مسلم يتبين من خلاله مكانه في هذا الوجود ومكانته.
"لقد كان هذا القرآن المكي يفسر للإنسان سر وجوده ووجود هذا الكون من حوله. . كان يقول له: من هو؟ ومن أين جاء، وكيف جاء، ولماذا جاء؟ وإلى أين يذهب في نهاية المطاف، من ذا الذي جاء به من العدم المجهول؟ ومن ذا الذي يذهب به وما مصيره هناك؟. . وكان يقول له: ما هذا الوجود الذي يحسه ويراه، والذي يحس ان وراءه غيباً يستشرفه ولا يراه؟ من أنشأ هذا الوجود المليئ بالأسرار؟ من ذا يدبره ومن ذا يحوره؟. . وكان يقول له كذلك: كيف يتعامل مع خالق هذا الكون، ومع الكون أيضاً، وكيف يتعامل العباد مع خالق العباد" (1).
ولقد كانت العقيدة بهذا المعنى الشامل، والذي تجاوز أن يكون علماً نظرياً إلى تفاعل نفسي واجتماعي، كانت قوام التربية التي انتهجها الإسلام في مكة وربى أبناءه عليها.
المراجع
- سورة يس: الآيتان 78- 79.
- سورة يس: الآيتان 81- 82.
- سورة ق: الآيات 3، 6-11
- سورة القيامة: الآيات 1-4
- في ظلال القرآن 2/ 1004.